السبت 18 أيار 2024

أغيثوا ما تبقى من مقدسات في الداخل الفلسطيني”..


النهار الاخبارية. القدس

أطلق باحث فلسطيني مختص بالآثار والمقدسات الإسلامية في فلسطين صرخة ونداء تحت عنوان "أغيثوا ما تبقى من مساجدنا ومقدساتنا في الداخل الفلسطيني”، وذلك على خلفية تفاقم ظاهرة نبش المقامات والمقدسات والآثار بحثا عن كنوز علاوة على الهجران والانهيارات جراء التقادم ومنع الصيانة والترميم.

ويوضح الدكتور عبد الرازق متاني لـ”القدس العربي” أن صرخته تأتي بعد جولة في أرجاء البلاد واطلاعه على سوء أحوال المقدّسات خاصة المساجد والمقامات، حيث لا يكاد يبقى مسجد أو مقام ولم يتم نبشه وحفر أرضيته أو تكسير جدرانه وكذلك مقابر القرى الفلسطينية المهّجرة التي تكابد الهجران والانتهاكات والتدمير المباشر.

ويضيف "عند عودتي من البلاد إلى مكان سكني الحالي في إسطنبول جلست مع نفسي ومع سجلاتي وقمت باستعراض وبكشف سنوي للانتهاكات لأقوم بعمل مقارنة لأحوال المساجد مع التوثيقات التي أعددتها سابقا من خلال مسحي للمواقع ضمن رسالة الدكتوراه لأجد أن حال هذه المساجد يزداد سوءا وكثير منها بات معرضا للانهيار التام لعدم صيانته أو الاعتداء المباشر عليه وتكسير بعض جدرانه أو حفر أرضيته وزعزعة بنائه وقد ذهلت من حجم العبث الحاصل ومن عدم اللامبالاة في داخلنا الفلسطيني من أشخاص وقيادات وأطر فاعلة بما يحدث مع هذه المقدسات،  وأيضا على الصعيد العالمي والإسلامي كون الحديث عن آثار ومقدسات إسلامية لا تخص الفلسطينيين وحدهم بل هي لكافة المسلمين”. موضحا أن الحديث يدور عن ظاهرة واسعة تتمثل بانتهاكات منظمة يتم خلالها الاعتداء على غالبية المساجد والمقامات في الداخل الفلسطيني، ومنها ما تم الاعتداء عليه مرارا وتكرارا ونبش عدة مرات منذ نكبة 1948.

ويقول متاني إن الاعتداءات الحديثة على المساجد والمقابر هي بالغالب نبش لأرضية المسجد أو المقام، وغالبا ما يتم النبش أسفل المحراب أو بالقرب من مكان المنبر، أيضا في زوايا المساجد والمقامات إضافة لتعرض جدرانه للتخريب كما هو الحال في مسجد عمقا قضاء عكا.

ويتابع "كذلك جرف للمقابر كما حدث مع مقبرة اليوسفية في القدس، نبش لبعضها كما حدث مع قبر الصحابي الجليل تميم الداري في الخليل، أو تكسير الشواهد كما حدث في مقبرة بيسان”.

وحول هوية المعتدين يرجح دكتور متاني أن الاعتداءات ليست أعمالا شخصية فردانية فقط بل انتهاكات منظمة طالت معظم المساجد والمقامات التي صمدت بعد عام النكبة والمشاريع الإسرائيلية التدميرية، وغالبا ما يتم الحديث عن المنقبين عن الذهب أو الباحثين عن الآثار والكنوز داخل المقابر والمساجد والمقامات والذين لا يأبهون بقدسية المكان أو حرمته”.

هل المؤسسة الإسرائيلية الرسمية ضالعة بهذه الانتهاكات؟
"لا بد أن نستذكر دور المؤسسة الرسمية في تدمير آثارنا ومقدساتنا بدءا من عام النكبة وطرد أهلنا من بلدانهم. لقد قامت إسرائيل بحملتها الرسمية عام 1965 بعنوان "تسوية الأرض” وفيها هدمت القرى المهجرّة وجرى تدمير غالبية آثارها ولم يتبق منها إلا القليل. ذات المؤسسة لم تتوقف يوما عن الاعتداء على المقدسات ونبش المقابر الأمر الذي وثقته من خلال كتابي "الرموز اليهودية والمقدسات الإسلامية بين التقديس والتدنيس” والذي استعرضت فيه عشرات النماذج من انتهاكات المقابر وتجريفها وعلى رأسها مقبرة مأمن الله العريقة في القدس وبناء "متحف التسامح” على أنقاضها فأي تسامح هذا الذي يقام على جماجم المسلمين، وأي عدل ننتظر من  محاكم تبنى وتقام على مقابر المسلمين كما هو الحال في صفد.

إسرائيل دمرت غالب الموروث الثقافي الفلسطيني وهي تسعى لفرض روايتها الصهيونية على أرض الواقع مسخرة في سبيل ذلك كل السبل والطاقات والموارد لهذه الدولة خدمة لمشروع تهويد الأرض والمكان وذاكرة المكان.

في هذا السياق نذكر أيضا تعنت المؤسسة الإسرائيلية ومنعها لترميم المساجد والمقامات المتداعية. أضف إلى ذلك استحلال إسرائيل للعشرات من المساجد كما هو حال المسجد الكبير في بئر السبع ومسجد السوق في صفد اللذين حولا لمعارض، ومسجد قيساريا الذي حول لمطعم وخمارة والقائمة تطول. أيضا وبموجب القانون الإسرائيلي وباعتبار غالبية هذه المواقع أثرية فيجب الحفاظ عليها ومعاقبة من يعتدي عليها، إلا أن أمر الاعتداء يمر مرور الكرام دون معالجة أو حتى اهتمام”.

كيف ومن يقوم بتوثيق الانتهاكات وما آخرها أو أهمها في العام الماضي؟
"في البداية لا بد لي من توجيه كلمه شكر للعديد من الأشخاص الغيورين على مقدساتهم ونعتذر عن ذكر أسمائهم لكثرتهم. هنا أشير إلى النقص والفراغ الذي حدث بعد حظر مؤسسة الأقصى للوقف والتراث إسرائيليا عام 2016 والتي عملت بها سنين عديدة مديرا لوحدة الآثار والمقدسات، وقد كانت وبحق درعا حامية للمقدسات وكنا نصل الليل بالنهار في سبيل المحافظة على ما تبقى من هذه المقدسات ونسعى للتواصل معها. اليوم أتحدث عن جهود فردية شخصية أقوم بها، في كثير من الأحيان أقوم بتفقد المواقع عند عودتي وزياراتي للبلاد كما فعلت في زيارتي التي عدت منها الى إسطنبول قبل أيام وبها وثقت وتحققت من انتهاكات مباشرة لمواقع ووثقت سوء حال البعض الآخر. آخر الانتهاكات التي وثقتها هذا العام كانت لحفر أرضية المسجد العمري في بيت جبرين.

ومن معاينة المكان تبين أنه تم نبش أرضيته في ما يزيد عن ثلاثة مواضع: أسفل المحراب، حفرة واسعة عميقة أسفل المنبر في وسط الجامع وحفر أخرى متفرقة، علما أن المسجد لا يبعد عن مقام الصحابي تميم بن أوس الداري الذي نبش أيضا عام 2020 وهو في حالة سيئة جدا ويحتاج الى ترميم فوري. كذلك نبش وحفر أرضية مقام النبي هوشان بالقرب من مدينة شفاعمرو قبل أيام”.



 كيف تقيم النشاطات والفعاليات التي تعنى بالمقدسات؟
"أقولها وبكل أسف، معظم الفعاليات الحاصلة تصب في خانة رفع العتب إذ لا يوجد دور جاد للسياسيين والأحزاب والحركات والقادة على مستوى الداخل. العمل شبه مغيب ويقتصر غالبا على نشاطات ومبادرات لمجموعات صغيرة أو مبادرات فردية كما هو الحال مقبرة القسام في بلد الشيخ في حيفا والمسجد الصغير ومحاولات الإخوة هناك  الحفاظ عليهم بحسب إمكانياتهم المتواضعة. أحيانا بتنا نرى أعمال ترميم لمقبرة هنا أو هناك على استحياء والتي أصنفها ضمن نشاطات رفع العتب أو النشاطات الموسمية. لا يعقل أن زيارة المساجد والمقدسات والقرى المهجرة تكون موسمية تقتصر على مجموعة صغيرة. لا يعقل أن يصبح الاهتمام بالتراث والإرث الفلسطيني غالبا كإحياء للذكرى والمناسبات، بل ومنها من انقلب إلى أفراح شعبية. لا بد من إعادة ضبط البوصلة فالمقدسات هي هوية الأرض وتحتاج منا إلى وقفة جادة”.

ما هي سبل الحفاظ على المقدسات؟
"من أجل التصدي للانتهاكات لا بد من نشاط دائم ومدروس ومن خلال جسم أو مظلة راعية للمقدسات الفلسطينية. على الصعيد الشخصي علينا أن نتواصل مع المقدسات والأرض، وعلى كل إنسان أن يستنفد الطاقات والإمكانيات التي يمتلكها نصرة للمقدسات: الرسام يستطيع أن يرسم لنا هذه الأماكن ويخلدها. المنشد يستطيع أن ينتج لنا الألحان التي تربطنا مع أرضنا ووطنا. المهندس يستطيع أن يمسح ويوثق لنا المساجد والمقدسات. المصور يستطيع أن يلتقط لنا صورا جميلة من عمائر وأنحاء أرضنا نحفظ من خلالها ذاكرتنا. الجد يستطيع أن يحدثنا عن قصص الماضي وعلاقته بالأرض والوطن. وينقل لنا قصص الأجداد ومحبتهم لأرضهم وعدم تفريطهم بها. الأم أو الجدة تستطيع أن تطبخ لنا وتطعمنا من خيرات هذه الأرض وأكلها التراثي.

على الصعيد المحلي: أولا يجب إحياء قضية المقدسات وجعلها دائما محور الحدث وضرورة التواصل معها وحمايتها على مدار العام، وتوثيقها وتوثيق انتهاكاتها وترميمها. كما يمكن القيام بالندوات والمحاضرات والمهرجانات والمؤتمرات التي تسلط الضوء عليها. على الصعيد القانوني مفروض أن الحديث عن الوضع الراهن وعن مبان صمدت بعد النكبة ومن ثم عمليات الهدم الممنهج ولم تهدم، وبالتالي وبحسب القانون الإسرائيلي فهي مبان قائمة يجب حفظها ولا بد من استغلال ذلك. في هذا المقام لا أعول كثيرا على المؤسسة الإسرائيلية التي تسعى أصلا إلى تهويد الأرض وذاكرتها فالأجدى هو العمل الجماهيري والضغط الشعبي والعالمي.

على الصعيد الإسلامي لا بد من حراك جاد للحفاظ على المقدسات والموروث الإسلامي، فمن هذه المقدسات التي يتم الاعتداء عليها قبور صحابة كرام كما حدث مع قبر الصحابي تميم الداري في بيت جبرين والذي انتهك أبشع انتهاك، وأيضا مقامات صحابة كرام والذين هم ليسوا خاصة للفلسطينيين بل للأمة الإسلامية جمعاء.

ولعلنا هنا نخص الدولة التركية كونها حاملة للإرث العثماني العظيم متصلين بأجدادهم الذين بنوا وعمروا الكثير في هذه الأرض المباركة، وإرثهم هذا هو من أكثر ما يتعرض لانتهاك وتدمير. وأيضا بقية المسلمين الذين اتصلوا بهذه الأرض وعمروا بها وأوقفوا بها الأوقاف كالسادة الأشقاء من المغرب العربي الكبير التي ما زالت أوقافهم وعمائرهم ومساجدهم شاهدة على صلتهم بهذه الأرض المباركة. وعلى الصعيد الدولي لا بد من حراك دولي جاد للحفظ على هذه المواقع، فأرض فلسطين فيها من المعالم ما هي إرث إنساني يجب حفظه للعالم أجمع.

ويقول دكتور متاني في كلمة أخيرة "أكرر وأشدد وأوجه صرخة عالية ومناشدة لأهلنا في الداخل وشعبنا الفلسطيني على المستوى الفردي والقيادات الجماهيرية بضرورة الحراك الجاد لإنقاذ ما تبقى من المقدسات الإسلامية والمسيحية في الداخل الفلسطيني. كذلك أخاطب الأمة الإسلامية والمجتمع الدولي لتحمل مسؤولياتها في هذا المضمار”.

وكرر متاني دعوته "لإطلاق حملة محلية- دولية تحمل اسم "أغيثوا ما تبقى من مقدساتنا في الداخل الفلسطيني” لعلنا نستطيع من خلالها أن نحفظ ما تبقى من مقدساتنا… في النهاية أبرأ إلى الله من خذلان المتخاذلين وتقصير المقصرين وندعو الله أن يحفظ أوطاننا ومقدساتنا”.

يشار إلى أن بعض الجهات كالحركتين الإسلاميتين وبعض الجمعيات ولجان أهالي القرى المهجرة تسعى هنا وهناك لحماية المقدسات من الاعتداءات والانهيارات نتيجة التقادم لكنها تبقى نقطة في بحر فيما ما زال ملف تحرير المقدسات الإسلامية في إسرائيل عالقا.