الثلاثاء 21 أيار 2024

مصر بلا طوارئ

عبد الحليم قنديل
قرار الرئيس السيسي بإنهاء مدّ حالة الطوارئ خطوة مهمة، وقد يتبعها المزيد من الانفتاح السياسي، على نحو ما توحي به الطريقة الحماسية التي كتبت بها «تدوينة» الرئيس يوم 25 أكتوبر 2021، والتصريحات اللاحقة المأذون بها للمتحدث باسم الرئاسة المصرية، وفيها إشارة إلى خطوات أخرى مفصلة، تدخل غالبا في نطاق تطبيق «استراتيجية حقوق الإنسان» المعلنة قبل أسابيع.
وقد تكون خطوة وقف الطوارئ أولية، وقد كانت من مطالب مقالات مبكرة لكثيرين بينهم كاتب السطور، بينها مقال بعنوان «أطلقوا سراح مصر» نشرته قبل سنوات، وكان تقديري أن حالة الطوارئ لا تضمن أمنا بذاتها، خصوصا مع تغليظات وتشديدات طرأت على القوانين العادية، كما جرى في تعديلات «قانون مكافحة الإرهاب» مثلا، في حين يوحي فرض حالة الطوارئ بمعان أخرى، تكاد تغلق المجال العام بكامله، فمع حالة الطوارئ يجري العمل بقانون الطوارئ، وهو قانون استثنائي بطبعه، يتيح للرئيس أو من يفوضه صلاحيات حظر مطلقة، بدءا من حظر التجوال، إلى حظر الاجتماعات والتجمعات لأكثر من خمسة أشخاص، وفرض الرقابة على الصحف والمنشورات بالوسائط كافة، وحجب حريات الحركة والتنظيم، والإحالات إلى محاكم خاصة تعرف باسم «أمن الدولة طوارئ»، لا فرصة بالطعن على قراراتها أمام «محكمة النقض»، فوق ما كان يتيحه قانون الطوارئ بنصه الموروث من عام 1958، ومن قبله قانون الأحكام العرفية منذ 1914، وكلاهما كان يمنح السلطات حق اعتقال الأشخاص من دون إبداء الأسباب، أو الالتزام بالعرض على النيابة المختصة، قبل أن تقر المحكمة الدستورية عام 2013، عدم دستورية نص إباحة الاعتقالات بلا ضابط ولا رابط، وقد ظلت حالة الطوارئ سارية في مصر بلا انقطاع، منذ حادث اغتيال الرئيس أنور السادات في 6 أكتوبر 1981، وطوال ثلاثين سنة من حكم المخلوع حسني مبارك، الذي حل فيه نص الطوارئ محل مواد الدستور، وإلى أن قرر المجلس العسكرى إلغاء حالة الطوارئ بعد ثورة 25 يناير 2011، ليعاد فرضها جزئيا بعد ثورة 30 يونيو 2013، وفي مناطق محددة من شمال شبه جزيرة سيناء، وبالذات في ما كان يعرف بمثلث الخطر، من «العريش» إلى «رفح» و»الشيخ زويد
ومع تزايد وطأة العمليات الإرهابية، وامتدادها إلى مدن الدلتا المصرية، جرى تعميم فرض حالة الطوارئ عام 2017، وتجديدها بانتظام كل ثلاثة شهور، وكان يجري تمديدها كل ثلاث سنوات أيام مبارك، وخلال الأربع سنوات الفائتة، لم يجر تقييد حق التنقل وفرض حظر التجوال، إلا في مناطق الحرب ضد الإرهاب في شرق سيناء، ولمدد متفاوتة، ارتبطت بوقائع ومعارك «حق الشهيد» و»العملية الشاملة»، التي أسفرت في النهاية عن اقتلاع شتلة الإرهاب الأساسية، وتراجع عدد الإرهابيين المطاردين في الجبال إلى حدود المئتين، على حد تقدير أخير لوكالة أنباء «رويترز»، مع التطور الطفري في أعمال تنمية سيناء وضمان الأمن فيها، وهو ما قد يكون شجع الرئيس السيسي على إعلان قراره بإنهاء مدّ حالة الطوارئ، وإشادته بما تحقق من أمن شامل، صنعته تضحيات ودماء الشهداء، وجعل مصر كما يقول «واحة أمان المنطقة» المضطربة.
وقد لا يعني الأمان المقصود نهاية كلية مبرمة لخطر الإرهاب، أو الاستبعاد التلقائي المحتوم لأي عمليات إرهاب واردة، فقد تحدث اختراقات هنا أو هناك، لكن منحنى الإرهاب تراجع بشدة، وعلى نحو مطرد في العامين الأخيرين بالذات، مع انكفاء جماعة الإخوان على أحوالها الداخلية المنهكة المفككة، ومع تطور صور من التعاون الأمني بين السلطات المصرية والجماعات الفلسطينية في غزة، ومع تحطيم شبكة الأنفاق والتهريب عبر الحدود، ومع التكثيف المتصل لعمل الجيش في اتجاهات الحدود الأربعة، واكتساب إمكانيات وخبرات فريدة، وإنهاء أوضاع نزع السلاح في سيناء، فقد كان من مزايا الحرب المعلنة ضد الإرهاب، أن كسب الجيش المصري حضوره مجددا في كامل سيناء، وعلى غير ما قضت به ملاحق أمنية لما تسمى «معاهدة السلام»، كانت قسمت سيناء إلى مناطق «أ» و»ب» و»ج»، وحرمت الجيش من وجود محسوس، إلا في المنطقة (أ) شرق قناة السويس، وجعلت غالب سيناء، التي تساوى مساحتها نحو ستة أمثال مساحة لبنان، منزوعة من السلاح المصري، ومن أسلحة الطيران والبحرية الحربية والقوات البرية، وقد انتهى ذلك كله الآن، وبسياسة وطنية «براغماتية»، ربطت مواجهة الإرهاب بالتحرير الفعلي الكلي لسيناء، وأعادت الجيش المصري بكامل هيئته إلى خط الحدود المصرية الفلسطينية التاريخية، ولأول مرة منذ ما قبل حرب 1967، وكان ذلك إنجازا موازيا مساويا، إن لم يزد في أهميته الوطنية، على مهمة اقتلاع شتلة جماعات الإرهاب، التي تمددت وتمطت لعقود طويلة ثقيلة، في فراغ تركه غياب الجيش المصري، ولم يكن بالإمكان الشروع في خطط كبرى لتنمية سيناء، وبتكلفة مئات مليارات الجنيهات، إلا أن يكون الجيش حارسا لأحلام تنمية تعثرت عقودا بعد المعاهدة إياها، وظلت حبرا باهتا فوق الورق.
وفوق ما يجري في سيناء الفارغة نسبيا من السكان، ويحتاج تعميرها وتحصينها، إلى سكنى ستة ملايين مصري فيها، بعد أن جعلتها أنفاق قناة السويس العملاقة، تغادر معناها الحدودي القديم النائي، وتغدو كأنها صارت في قلب دلتا النيل، وهو ما قد يلفت النظر إلى معنى الإنجازات العمرانية الهائلة، التي توالت بكثافة في السنوات الأخيرة، خصوصا في مجالات المدن الجديدة وشبكات الطرق وخطوط الطاقة، واكتشافات الغاز الطبيعي والبترول وغيرها، وكلها إنجازات لا تنكر لإدارة الرئيس السيسي، تخلق بذاتها تحديات ومصاعب مضافة، نكرر الإشارة إليها في كل ما نكتب ونقول، إذا أردنا للتجربة المصرية، أن تكون مثالا هاديا لعالم عربي غارق بأغلبه في الظلام والحيرة والتخبط، فليس أفضل ولا أحق من مصر في شق طريق الخلاص، والظواهر العربية الكبرى تتكون أولا في مصر، ثم تسري بحساب الأواني المستطرقة مشرقا ومغربا، ولا أحد عاقل بوسعه إنكار حقائق ومآزق في طريق مصر الراهنة، لعل أخطرها في ما نظن، ذلك التناقض المتفاقم بين ما يجري من إنجاز، وما تتضمنه الاختيارات الحاكمة من انحياز في الاتجاه المعاكس، انحياز يجري غالبا لغير صالح الفقراء والطبقات الوسطى، وهم أغلبية مصر العظمى، هم التسعون مليونا بين المئة مليون وتزيد، وهو ما يولّد احتقانا اجتماعيا متزايدا، وانفصالا محسوسا بين «مصر الكومباوندات» و»مصر الحارات»، لا تكفي لتوقيه وردم فجواته سياسات الصدقات وحملات التبرعات
وبرامج التكافل والحماية والأعمال الخيرية، وهو ما قد يعني أنه لا بد من تصحيح جوهري في ما يجري بالجملة، وعبر اتجاهات خمسة متداخلة متزامنة في التطبيق الممكن، أولها: استكمال ما تحقق في سيرة استعادة استقلال القرار الوطني، وثانيها: إدراك الأولوية القصوى للتصنيع الشامل للبلد، بعد عقود من التفكيك والخراب، وخلق اقتصاد إنتاج عفي يحل محل الواردات ويضاعف الصادرات، وثالثها: رد الاعتبار لمبادئ وحقوق العدالة الاجتماعية، وردم فجوة تفاوت الثروات المرعب، واتباع نظام عادل للضرائب التصاعدية، ورابعها: كنس امبراطوريات النهب الموروث المتحكم، وتطهير جهاز الدولة الفاسد، وخامسها: فتح المجال العام وإطلاق الحريات العامة، وتفكيك الاحتقان السياسي، وإنهاء قيود الرقابة على حريات الصحافة والإعلام عموما، وكلها قيود تنتسب بطبيعتها إلى زمن «أهل الكهف»، فلم يعد مستساغا ولا لائقا ولا هو ممكن، ما يتصوره البعض من جدوى لإغلاق النوافذ، في زمن تطورت فيه وسائل الاتصال على نحو صاروخي، وساد إعلام المواطن الفرد، وتكميم حريات التعبير والتفكير، اليوم لا يؤذي غير صاحبه، وقد يكون إنهاء مد الطوارئ فرصة لمراجعة، تنتهي معها صور الرقابة على الصحف والتلفزيونات والمواقع الإلكترونية، وأن يحتكم إلى القانون العادي، الذي صار يحظر حبس الصحافيين إلا في جرائم انتهاك الأعراض والفتن والتمييز، وحريات التعبير متصلة تلقائيا بحريات الحركة والتنظيم للأحزاب والهيئات، مع تصفية مظالم لحقت بالكثيرين، ووضع خطوط حمر فاصلة بين السياسة والإرهاب، وفي الإرهاب لا تهاون ولا تراجع عن مواجهته، أما في السياسة، فلا بديل عن تصرف واجب، يدعو الرئيس السيسي لاستخدام صلاحياته الدستورية، وإصدار قانون عفو عام عن كل المتهمين، أو المدانين في قضايا سياسة لا إرهاب فيها، ووقف التمديد المضاعف لفترات الحبس الاحتياطي، وهو ما يحتاج إلى شجاعة قرار، يكمل بها الرئيس شجاعة مبادرته بإنهاء مد حالة الطوارئ، وإنا معكم لمنتظرون.