الثلاثاء 21 أيار 2024

جورج قرداحي بالزمن الصعب



بقلم الاستاذ حربي خليل
ممالك الكاز والغاز وما حولها ومعها من "ذباب إليكتروني" يواصلون منذ أيام الضغط والابتزاز لمعاقبة الإعلامي العروبي المرموق والشجاع جورج قرداحي. ما نشهده من صفاقة وتفاهة في هذه الحملة الهستيرية يتجاوز بكثير تصريح قرداحي الذي أدلى به قبل أن يكون وزيرا للإعلام في الحكومة اللبنانية الحالية والذي وصف فيه الحرب على اليمن بالعبثية. إنها في الجوهر عملية تطويع لكل من له موقف في مواجهة البؤس والتفاهة والقهر والظلم. هذا الجنون الذي يتجاوز بديهيات الديبلوماسية واللياقة في العلاقة بين الدول، يحمل رسالة واحدة: على الجميع الرضوخ والخنوع والتخلي عن أي معنى من معاني الكرامة والحرية والشجاعة، وتقديم الطاعة والولاء لأكثر الأنظمة العربية جهلا وتخلفا.   
ما يجري هو تعبير كثيف وساطع عن طبيعة المواجهة في زمن الاشتباك الشامل الذي يغطي مساحة الوطن العربي بكامله.
في زمن الاشتباك هذا، حيث يواجه جورج قرداحي ببسالة عالية سياسة الترهيب والابتزاز والتخويف والانتقام  نتساءل عن آلاف الأسماء المثقلة بالألقاب: المثقف، البروفيسور، العالم، الدكتور، رئيس كرسي كذا.. وكذا... المفكر، الفيلسوف، المنظِّر، الكاتب، المبدع، العبقري، الجهبذ، نتذكر ونتذكر... ثم يدوي السؤال: اين كل هؤلاء!؟
فإذا لم يكن دورهم الآن، حيث الاشتباك الضاري على مساحة الوعي والعقل العربي في مواجهة الإسفاف والهبوط، التشويه، التجهيل والتدمير والتكفير والتمزيق والتقسيم والاستلاب والخضوع ومحاولات احتلال الوعي فمتى سيكون دورهم!؟ 
فإذا لم ينهض المثقف الآن لحماية وحراسة الوعي الجمعي وتحصينه، إذا لم ينهض كل هؤلاء الآن ويخوضوا الاشتباك ضد القوى التي تستهدف، وبلا رحمة، تاريخ ووعي وذاكرة الإنسان العربي وكرامته، فمتى سيأتي دورهم يا ترى!؟
الآن زمن الاشتباك.الآن نحن بحاجة لذلك المثقف الذي كنا نحترمه ونستمع إليه وندخره كالقرش الأبيض  لمثل هذا اليوم، فإذا لم نجده الآن في  دائرة الاشتباك الثقافي الممتدة على مساحة الوعي العربي كله فلأي شئ إذن نريده بعد ذلك!؟ إذا "إليسا" دخلت دائرة الاشتباك فماذا يتنظر المثقفون!؟.  
الآن زمن الاشتباك، حيث تتعرض الأوطان والإنسان للقهر والتدمير من قبل قوى الظلام والجهل والأنانية القاتلة الطائفية أو القطرية أو الجهوية، وثقافة وسياسة البترودولار الهمجية أو غير ذلك. الآن حيث يدور الصراع على الوعي والذاكرة والفكرة والأمل والحق والثقة بالنصر، الآن حيث تزج قوى القهر والاستعباد والعنصرية بكل طاقتها لأحباط أي محاولة للتحرر والتمسك بالهوية الوطنية والقومية الجامعة لتبقينا رهائن في حظائر الجهل والظلام. الآن ننتظر ونبحث عن المثقف الحقيقي الذي يجب أن يلازم متراس المجابهة بكل وضوح، يحشد، يدافع، يقاوم، يزرع الأمل ، يعمق الوعي ويفجر عنفوان أرواحنا. 
فإذا لم نجد ذلك المثقف الآن، أي في زمن الاشتباك هذا، وفي دائرة الاشتباك هذه فمتى سنجده!؟ 
الآن في زمن الاشتباك المباشر والممتد والشامل، كل الأسماء والألقاب لم ولن ولا تعني شيئا إذا لم ينهض أصحابها ليعطوا لألقابهم الفخمة تلك قيمة ومعنى حقيقيا في الوطنية والتحرر والكرامة.
في زمن الاشتباك، حيث رحى المواجهة يدور بكامل قوته، سيهز غربال الاشتباك الواقع بصورة عاصفة، سيفرز الغث من السمين، وسيفرز المثقف الحقيقي من الوهمي،  سيفرز المثقف الجرئ الشجاع من المثقف الهش والملتبس، حينها لن يحمي أي مثقف لقبه، مهما كان برّاقا، إذا لم يبرر ذاته ويبرهن على ذلك في لهيب المواجهة الثقافية  الدائرة، وسينكشف على انه مجرد قطعة حلوى رخيصة مغلفة بورق تافه ملون لا أكثر. 
ليس دور المثقف في زمن الاشتباك، كما أفهمه وأعيه، أن يكون مجرد دريئة صدّ، لتبرير وتغطية السياسي (سواء كان حزبا أو قائدا أو زعيما أو حكومة) ليجعل خياراته وقراراته سهله. دوره، إن جاز القول، أن "يُجَنِّن" السياسي. لهذا بالضبط نجد في الممارسة أن السياسي لا يتوقف لحظة عن محاولات احتواء المثقف وشرائه وإخضاعه، محاصرته وتجويعه، ترهيبه واعتقاله، أو حتى اغتياله. 
دور المثقف أن يحاصر السياسي بالوعي العالي، وأن يتجاوز السباحة على الشواطئ الضحلة ويغوص في الأعماق، أن يصعد الذرى البعيدة ليكشف ويرى أشمل وأبعد مصالح وحقوق وطموحات وأحلام الناس. دوره أن يذكِّر السياسي دائما بأصول الخطاب والكلمات وحق المسؤولية وجوهر التناقضات ليجعل هوامش مناوراته ومراوغاته ومساوماته على حقوق الناس والشعب صعبة إن لم تكن مستحيلة، فيجعله يتحرك باستمرار ويتصرف وكأنه على صفيح ساخن. 
دور المثقف أن يحرس الخيارات والقضايا الكبرى. أن يلازم روح الشعب وأهدافه الكبرى وهويته وحقوقه وكرامته، بحيث لا يستسهل السياسي الهبوط عنها متكئا على تبريرات وميوعة وهيولة وتراخي وجبن وضحالة المثقف. 
دور المثقف أن يرتقي بفلسفته وأدائه ومواقفه وسلوكه بما يبقيه وفيا ومنتميا، عنيدا وحاسما، ذكيا مرنا ومقاوما، بحيث لا ينفصل أو يقطع مع مصالح وحقوق الشعب، فلا يسقط في مصيدة انتهاك الأهداف الجزئية للأهداف الكبرى، ولا التكتيك للاستراتيجيا، ولا يضحي بالغابة من أجل شجرة، ولا يبدد المستقبل من أجل الراهن، ولا يضحي بالعام من أجل الخاص الضيق والأناني، سواء كان ذلك الخاص شخصيا أو يتعلق بمصالح طبقة أو فئة أو دولة مهيمنة. بهذا  يحاصر المثقف السياسي ليحافظ على المصالح والأهداف الكبرى وإنجازات من سبقوا، ويحمي حقوق من سيولدون. 
هذه هي المعادلة الناظمة التي  يجب أن تحكم جدل الثقافة والسياسة في المجتمعات المشبعة بالكرامة والحرية، الوفية لذاتها وهويتها وتاريخها وتخوض نضالا مستمرا من أجل تحررها واستقلالها الوطني التام. وغير ذلك لن تتجاوز العلاقة بين المثقف والسياسي علاقة الراقصة بالطبّال، أو العلاقة السائدة في خُمّ/قِن دجاج.
هذا التحدي الثقافي يواجه اليوم مجمل المثقفين العرب، الذين عليهم أن يعيدو النظر في دورهم العميق،  ومغادرة مصيدة "الفكر اليومي" على حد تعبير مهدي عامل، ذلك "لأن الفن الرديء الذي يروّج له الصغار في حياتنا الآن، تحت أي شعار كان، لا يقلّ ضرراً عن السلاح الرديء" كما يقول محمود درويش.
أما أنت يا جورج قرداحي فسواء بقيت وزيرا أم سيقيلونك، فقد انتصرت بذاتك لذاتك ولنا. انتهى. شكرا لك.