الجمعة 19 نيسان 2024

استضافة إسرائيليين على القنوات العربية.. كيف تؤثر على وعيك وأفكارك دون أن تدري؟


الكاتب صالح الشحري 
طبيب فلسطينى

مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.

رحم الله الصحفي محمود عوض، الذي كان من أوائل مَن قرّروا قراءة الكتابات الصهيونية ونقلها لنا؛ لكي نعرف كيف يفكر العدو، فكان كتابه المهم "ممنوع من التداول". وكما ذكر فقد كان هناك حظر على الحصول على كتب يكتبها مؤلفون إسرائيليون، ولكن الحظر في رأيه زادنا جهلاً بعدوّنا، المعرفة سلاح مهم، وأن تعرف كيف يفكر عدوك أمر حيوي؛ حتى تعرف كيف تتخذ من الإجراءات ما يُكافئ استعداداته.
لقد سار البعض أشواطاً في مجال الدراسات الصهيونية، ولعل أبرزهم المرحوم الدكتور المسيري في موسوعته، وفي كل إنتاجه الفكري المتميز، ولكن هل استضافة متحدثين من الإسرائيليين في برامج إخبارية على القنوات العربية يفيد العربي في ترتيب نفسه ومفاهيمه ليقاوم أو ينافس إسرائيل؟
ما زال هذا التساؤل يستفز عقلي كلما تابعت أخباراً عن الحراك الشعبي في فلسطين، فكثيراً ما تجد قنوات عربية تستضيف متحدثين إسرائيليين ومُناظرين من فلسطين للتحاور حول موضوع فلسطيني.
المشاهدون نوعان، أحدهما حَسَم خياراته في مقاومة إسرائيل، والثاني ربما كان ضد إسرائيل نظرياً، ولكن جدوى الأعمال التي نقوم بها لِلَجْم إسرائيل أمر قد دخل لديه في مربع الشك.
غالباً ما يُوصل المحاور الفلسطيني رسالةً واضحةً، وهي أن شعبه يعرف طريقه، وأنه لن يبخل بتضحياته، وأنه مهما طال الزمان فإننا سنستعيد حقوقنا، وأن على مدعي التحضر في العالم أن يخجلوا مما يفعله الجيش الإسرائيلي. 
في المقابل تجد إسرائيليّاً هادئاً بتأسّف لوجود ضحايا، ويُقر بحقّ الناس في التظاهر السلمي. ويذكر أنه شخصياً مع سلام بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، بناء على حل الدولتين.

ثم يقول كلاماً يفيد بأن النزاع على القدس سهل حله، الشرقية للعرب والغربية لليهود، ويتابع أن العرب الذين وافقوا على حل الدولتين لم يتمكنوا من إيقاف المتطرفين منهم عن ممارسة إرهابهم ضد دولته، ولذا فإن إسرائيل لن تقدم الحل على طبق من ذهب ليستفيد منه الإرهاب، وخلال ذلك يقول إن إسرائيل قد فعلت ما عليها، فقد نصحت سكان الضفة أو غزة (لا يقول الفلسطينيين عادة) بألّا يصلوا بتظاهراتهم إلى المنطقة التي وصلوا إليها؛ لأنها منطقة حساسة عسكرياً لإسرائيل.

ويتابع مثلاً أنه كان بإمكانهم أن يختاروا منطقة غير هذه المنطقة التي هناك محاذير من التظاهر فيها. أو يقول إن ما تعرّض له سكان دولته من عمليات عسكرية لم يترك لدولته خياراً آخر، وأنه لا يمكن حماية شرين أبو عاقلة دائماً ما دامت تدخل مناطق الإرهابيين (طبعاً يقصد الفلسطينيين)، وقد يُبدي التعاطف مع شيرين ويعزي أهلها، ثم يذكر مناطق أخرى في العالم قُتل فيها صحفيون، بعدها يذكر أن الإصابة كانت خطأً من قنّاص إسرائيلي، ولكنه لا يستبعد تعمداً من إرهابي من حركة الجهاد أو حماس.
 ثم يتدخل المذيع مشيراً إلى حصار غزة، وهنا يردّ الضيف الإسرائيلي نافياً أن هناك جوعاً في غزة، وبثقة يُحمل حماس المسؤولية، معتبراً أن إسرائيل فعلت ما بوسعها لكي تخفف الحصار، فقد رفعت الحصار وخفّفته بما يسمح لغزة باستيراد ما تحتاجه، ولكن حماس تستغل فترات تخفيف الحصار لتهريب أسلحة، مشيراً إلى إيران كمصدر لتسليح حماس، وقد يحوّل دفة النقاش ليتحدث عن دول الخليج، التي تعاني من "البعبع" الإيراني… إلخ.
خلال ساعة من الاستماع إلى هذا النقاش، فإن المشاهد العربي الذي يتحرق قلبه قد لا يقبل ما يقوله الإسرائيلي، ولكن الحوار بحيثياته يستقر داخل العقل، حيث التلقي في العادة يكون في فترة عقلية تُوصف بفترة الاستقبال السلبية، وذلك حين يكون مستمعاً لا طرفاً في النقاش. ومع الوقت وبعد انتهاء السهرة يبدأ العقل باستعادة الحوار وتكييف الاستجابة، بعيداً عن لحظة الرفض الأولى، وبعيداً عن الاستفزاز الذي أدى للرفض، وعلى الأغلب فإن إعادة التقييم تقرر في الوعي ما يلي:

هناك إسرائيليون قريبون من أن يكونوا طيبين مثل هذا المتحدث، وعلامات طيبته الوسامة والهدوء وأناقة الحديث، وهناك إسرائيليون موضوعيون ومنطقيون يوافقون على حل الدولتين، وهكذا، فهم متفقون مع المبادرة العربية وإن رفضتها دولتهم.

ويلتقون مع تيارات عريضة من الشعب الفلسطيني، وحيث إن العقل يميل إلى إهمال التفاصيل، فقد يجدهم أيضاً قريبين من موقف حماس، التي لا تذكر حل الدولتين في أطروحاتها صراحةً؛ لكنها تذكر أنها توافق على دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967، فقد يتقبل فكرة أن على المجتمع العربي دعم معسكر السلام في إسرائيل ببعض المغريات.
 والبعض يصل إلى أن إسرائيل قد تكون مخطئة؛ ولكن يعذرها لأنها نصحت الغزّاويين بالتظاهر بعيداً عن هذه المنطقة، ومن ثم يصل إلى استنتاج أنه كما أن هناك إسرائليين طيبين، فهناك فلسطينيون سيئون مثل حماس، التي -كما يقول الإسرائيلي- استغلت تخفيف الحصار الإسرائيلي لتهريب السلاح، وتستغل الحراك الشعبي لتهرب من مشاكلها.
وهكذا يبدأ الوعي في إعادة التقييم، وتدوير الوعي لصالح المحتل، فإذا ما قلنا إن مثل هذا الموقف يتعرض له الوعي العربي مرتين أو ثلاثاً أسبوعياً، ومِن قنواتٍ شهيرةٍ تغطّي أحداث فلسطين، والحوار مع الإسرائيليين يُجريه فلسطينيون لا تشكك في وطنيتهم؛ تكون النتيجة مع الوقت مواطناً عربياً يقبل إسرائيل، ومستعد للتنازلات من أجل الجيرة الطيبة معها.
 وهو مع إعطاء السلام فرصاً أخرى خاصة، إذا لم يُحقق الحراك الفلسطيني -لا سمح الله- إنجازاً ملموساً. وهنا يبدأ الوعي في اعتبار المقاومة غير مجدية، وأن التصالح مع إسرائيل يعطي فرصاً لتخفيف الفقر وللتقدم المادي، ويغلق الباب أمام المتطرفين، سواء أكانوا متطرفي إيران أو سواهم.
إن هذا الأسلوب الإعلامي الذي يُدخل الإسرائيليين إلى بيوتنا يدخل منطقهم إلى لا وعينا، ومع الوقت نصبح حيوانات مطبّعة من غير أن نعي. 
 فرق بين دراسة الكتب التي تكشف لنا كيف يفكر الإسرائيليون، وخاصة عندما يحللها مثقفون واعون مخلصون مثل المرحوم محمود عوض، وأن نترك في فترة وعينا السلبي للإسرائيليين مع ضيوف القنوات العربية.

نحن لا نشكك في دوافع بعض هذه القنوات العربية، لكن في هذه النقطة يكمن الخطر، إذ يغلب على الجمهور الاطمئنان إلى الموضوعية، فنسقط مرة أخرى ضحية الإعلام.

إن الاعتذار بأن تلك القنوات إنما تفعل ذلك لتظل قادرة على تغطية ما يجري في الساحة الفلسطينية قول نسفه القناص الإسرائليي، الذي وجّه رصاصة إلى رقبة المناضلة المرحومة شيرين أبو عاقلة.
إنه خطر كبير وأي خطر..!