الجمعة 19 نيسان 2024

كيف ينظر المجتمع إلى المريض النفسي في لبنان؟

النهار الاخباريه –هلا كريم  
على الرغم من أن السعودية حلت في المرتبة الأولى عربياً لعام 2021 في مؤشر السعادة العالمي، فإنها نالت الرقم 21 عالمياً، وجاءت فنلندا الأولى لهذا العام. وحل لبنان في المرتبة 123 من أصل 149 دولة. ويبدو أن المجتمعات العربية من الصعب أن تخترق الصفوف الأولى للسعادة، ربما بسبب عدم إعطائها الصحة النفسية ما تستحق من اهتمام.
السعادة والصحة النفسية
ترتبط السعادة والإيجابية بالصحة النفسية بشكل وثيق. فهرمون السعادة الذي بات مصطلحه مستخدماً بكثافة في السنوات الأخيرة الماضية وتناولته أبحاث عديدة يؤثر في نوعية الحياة التي يعيشها الفرد. قبل عقود ما كان لأحد أن يتخيل أن سعادته مرتبطة بإفرازات كيماوية داخل دماغه وجسده تتحكم بصحته النفسية، فيفرح أو يكتئب أو يقلق أو يخاف. ومن أبرز الهرمونات المسؤولة عن الصحة النفسية السيروتونين والإندروفين والدوبامين والأوكسيتوسين.
الألم النفسي
"أنا لست بخير، لكني لا أعاني من أي ألم". يعرف هذا الشعور فقط من أصيب يوماً بمرض نفسي. يتمنى المريض النفسي لو استبدِلت هذه المشاعر المتضاربة غير المفهومة بأي ألم واضح المعالم، إذ إن غموض الأحاسيس وغرابتها وموجاتها غير المتوقعة تجعله أسير تلبّدات عاطفية وعصبية ونفسية ممزوجة ببعضها ومتفاوتة.
كل هذا يبقى أسهل أحياناً من نظرة المجتمع إليه. إذ على الرغم من الانفتاح والوعي حول الصحة النفسية في المجتمعات العربية، لايزال المجتمع يجلد المريض النفسي مهما كانت حالته، ويتعاطى معه على أنه فاقد للعقل والإدراك. لذا ما زال كثير من المرضى يترددون في زيارة طبيب أو معالج نفسي، وإن حصل فبتكتم شديد. إذ يكفي ما يعانيه المريض من أوجاع نفسية ليتحمل أحكام المجتمع ونظرته الفوقية له، والانكباب على نصحه بألا يعتاد على الدواء ويكتفي إما بالرياضة أو الرسم أو التأمل أو الانشغال بما يلهيه عن كآبته.
وقد ساعدت الدراما العربية في رسم صورة نمطية عن المريض النفسي شكلاً ومضموناً، تأثر بها المجتمع وكرست في الذهنية المجتمعية في صورة مغلوطة لا تقارب الواقع. وبات من الرائج استخدام كلمة مريض نفسي أو "سايكو" بمعنى النيل من الشخص أو إهانته. وهو في الواقع مجرد خلل هرموني أو عصبي قد يصيب أي شخص.
مريض بالسر
تقول ميرنا كريدي، "عندما أتتها صديقتها بشتلة لافندر لتزورها بعد معرفتها أنها شخصت بمرض الوسواس القهري، أسرّت لها أنها تتناول أدوية عصبية منذ أكثر من سبع سنوات، وأنها واجهت كثيراً من الأحكام والنصائح، إما لزيارة شيوخ أو من يتعاملون منهم مع العالم السفلي، وأن أحدهم صنع لها (كتيبة)، أو أن جنّاً تلبّسها، إلى أن التقت صدفة صديقة لها أعطتها رقم طبيب أمراض نفسية وصف لها الدواء الذي حول حياتها من جحيم إلى هدوء، وعادت لإنتاجها، لكنها لم تخبر أحداً، ونصحت صديقتها أن تقوم بالمثل".
لكن ميرنا، أرادت مواجهة كل مخاوفها من مرضها ومن المجتمع. تقول "لم أكن بخير، وكل مَن حولي يتفاجأون لأن حياتي تبدو مثالية، أحب زوجي وأطفالي، وعملي ممتاز وكذلك وضعي الاجتماعي والمادي. وفجأة شعرت بانهيار شيء ما في داخلي، لم أعد أشعر بالرضا، وأتخيل أن زوجي سيقتلني أثناء نومي، وأصبحت أنام مع أولادي، ثم بدأت أخاف أن تقع ابنتي من الشرفة، خوف رافقته موجات من البكاء الفجائي والانطواء والاكتئاب والحساسية الزائدة". ذهبت إلى الطبيب وقررت إخبار كل مَن حولها بحالتها لتفادي أي مشكلة أو سوء تفاهم. وتعتبر أن مجتمعها كان متفهماً وإن لم يكن واعياً بما يكفي لحالتها، "فلم أضطر أن أكون مريضة بالسر كصديقتي".
جربت ميرنا معالجة ذاتها وحدها ولم تفلح "الموضوع كان أكبر مني، ولا يمكن علاجه بسماع الموسيقى والمشي، وتأكدت عندما شرح لي الطبيب حول إفرازات هرمونية تتسبب لي بمشاعر مرعبة، ولا تتعدل إلا بتناول الدواء". وتؤكد ميرنا أنه بعد 3 أسابيع من تناول الدواء بدأت تشعر بالفرق، وعادت إلى حياتها السابقة
يقول حسن سقلاوي، إنه كان يخشى من رد فعل الناس حوله إذا عرفوا أنه يتعالج نفسياً. فلقد شهد أشخاصاً تعرضوا للتنمر والسخرية أو الشفقة، "ولكن عندما يتصالح الشخص مع نفسه بخاصة بعد العلاج يعرف أن هؤلاء لا يعرفون ماذا يحدث فعلاً؟ فيعذرهم ولا يتأثر بكلامهم". أكثر ما كان يجرحه عندما يسخر منه بعض أصدقائه قائلين "أخذت الحبة؟ أو بعدك عم تحبحب أي تأخذ حبوب".
من جهتها تقول جانيت، "لم أخبر أحداً عندما ذهبت في المرة الأولى لزيارة معالجة نفسية، كنت أخشى أحكام الناس ونظرتهم وأسئلتهم وشفقتهم، لكن روحي كانت متعبة لدرجة أنني قررت ألا أهمل مشاعر الخوف، والرغبة أن أنهي حياتي وحياة طفلتي". بعدها حولتها المعالجة إلى طبيب أمراض نفسية بعد خمس جلسات لم تأتِ بالفائدة المطلوبة. هذا منذ أكثر من 12 عاماً. تعتبر جانيت أن الدواء الذي واظبت عليه طوال 7 أعوام حينها كان خشبة خلاصها، وسبباً في فتح صفحة جديدة في حياتها وحياة عائلتها. تضيف، "بسبب الناس تتولد لدينا أزمات نفسية، وبسبب أحكامهم نخاف أن نتعالج، وهذه معضلة كبيرة. على المريض أن يفكر بصحته بغض النظر عن نظرة المجتمع".
عوارض وعوارض جانبية
قد لا يكون الخوف من نظرة المجتمع وحدها السبب في الانكفاء عن العلاج. إذ يخشى كثر عوارض أدوية الأعصاب. ففي حين تتسبب بعض الأدوية بالهدوء والسكون، يتسبب غيرها بالانفعال والنشاط الزائد، ومعظمهما تسبب السمنة. بعض الأدوية تخفف من التركيز وأخرى قد تتسبب في النسيان وعوارض أخرى تبقى إذا ما اجتمعت جميعاً أقل وطأة من الشعور المتضارب والأمراض العصبية والنفسية.
الصحة النفسية تزدهر
في حين أصبح الوعي في جعل العيادة النفسية موضوعاً قابلاً للنقاش وعادياً، والصحة النفسية حاجة وضرورة مثل الصحة الجسدية. ما زال البعض يعتبرها من الكماليات وليست ضرورة ملحة.
المتخصصة النفسية العيادية والأستاذة الجامعية "تريز ورد" تقول لـ"اندبندنت عربية"، "إن النظرة للعيادة النفسية تغيرت جداً في لبنان. وتشير إلى أن العمل ازدهر أكثر في السنوات الثلاث الأخيرة. حتى أن كل المواعيد محجوزة لأسابيع".
عن النظرة الإيجابية تجاه الاهتمام بالصحة النفسية علناً تقول "المسلسلات أخيراً أظهرت دوراً للطبيب النفسي بشكل إيجابي، إضافة إلى ظهور المعالجين النفسيين في فقرات من برامج عديدة لأخذ رأيهم بما يجري في البلد، وهما ما ساعدا في تغيير ذهنية المجتمع في النظرة إلى الموضوع، هذا جعل الناس يتشجعون ويأتون إلى العيادات، وأصبحوا لا يتقبلون أن يكون لديهم وجع نفسي من دون البحث عن مساعدة". وتعتبر "أنه عندما يتحدث الأشخاص عن تجاربهم وكيف استفادوا من العلاج النفسي ويدلّون معارفهم، تأخذ الأمور أماكنها الطبيعية في المجتمع". وعلى الرغم من ذلك لا يلتقي المرضى في العيادات النفسية في صالة واحدة.
تقول ورد، "إن السرية أساسية وأهم "كود" في هذه المهنة، فلا يتقابل المرضى، يخرج مريض ليدخل آخر، "وإذا حدث أن وصل مريض قبل وقته ينتظر في صالة وحده حتى يخرج المريض الآخر، حتى أن لدينا مدخلين للعيادة يدخل المريض من باب ويخرج من الآخر".
وتشير إنها عندما بدأت قبل 20 عاماً، كانت عيادتها في مركز فيه مختلف الأطباء، وكان المرضى يطلبون مواعيد أيام السبت أو في الليل كي لا يلتقون أحداً. "اليوم لم أعد أسمع بهذا، ولا أظن أن الناس ما زالوا يخشون نظرة المجتمع لزيارة معالج نفسي. ولم يعد يخجل الناس من الحديث عن المرض النفسي".
تضيف، "مَن يريد أن يستفيد من العلاج يكون طالباً له بإرادته ولديه الحاجة لحل المشكلة، ولا أحد يأتي مكان أحد، لكن في حالة بعض المراهقين يأتي الأهل، بخاصة إذا كان يتعاطى المخدرات أو أنه يرهق أهله، يأتون لتمهيد الطريق له، وأكثر الأحيان إما يأتي مرة أو مرتين أو ولا مرة، لأنه لم يطلب بنفسه، بل أهله من أرادوا علاجه"، بحسب ورد.
وتعتبر أن الحاجة للعلاج زادت كثيراً، و"الوعي جعل الناس يتوجهون إلى العيادات النفسية، ولا يكتفون بالصلاة أو الذهاب إلى الشيوخ". أما الحالات المنتشرة بكثرة بعد كورونا والأزمة الاقتصادية فتشير إلى ازدياد القلق ونوبات الذعر والاكتئاب.
وللتأكيد على انتشار العلاج النفسي وعياداته وأخذ حيزه الطبيعي في البلد، تقول ورد، "في الماضي كان يتقدم إلى الجامعة اللبنانية لتخصص العلاج النفسي بين 50 و60 طالباً، أما اليوم فيتقدم أكثر من 600 طالب ليأخذوا نصفهم بعد مباريات الدخول. فالطلاب يتجهون صوب هذا التخصص لأنه أصبح من المعروف أن هذا المجال مزدهر في البلد".
ا