الإثنين 20 أيار 2024

تقارير وتحقيقات

مسار حافل بالمشقات من لبنان وعبر بيلاروس للوصول إلى ألمانيا

النهار الاخباريه. بشير مصطفي 

نسخة جديدة من فيلم الهجرة غير الشرعية، تدور أحداثها هذه المرة على أراضي لبنان وبيلاروس وتركيا. أما الأبطال فهم مواطنون ولاجئون، يئسوا تلقي الوعود بـ "غدٍ أفضل"، فكان المخرج بالنسبة لهم، مهرّب مجهول الهوية، ومساعده جهاز "جي بي أس".
أما الطابع التراجيدي فيقوم على التساؤل بشأن ما إذا كانت بلدان الشرق الأوسط أصبحت فعلاً غير قابلة للحياة الكريمة؟ وبالتالي ما الذي يدفع شبان وعائلات لقطع آلاف الكيلومترات في قاربٍ منهَك، أو سيراً على الأقدام لعبور الغابات؟ هل هم مدفوعون بالأمل أم أنهم سائرون خلف وهم "الحياة الأبدية الكريمة". ومن أجل ذلك، لا يوفر هؤلاء أي طريقة للهجرة سواء كانت عبر رحلات شرعية من مطار بيروت إلى إسطنبول أو مينسك أو بواسطة قوارب غير شرعية يتقاسم الركاب ثمنها، ويعهدون إلى أحدهم مهمة القيادة.
مما لا شك فيه أن عواملاً ذاتية وموضوعية تدفع بهؤلاء إلى ركوب الخطر للوصول إلى أوروبا، وقد ساهمت حالة اللااستقرار التي تعيشها بلدان مثل لبنان، سوريا، العراق، أفغانستان، إيران ودول أفريقية عدة وغيرها، في دفع مواطنيها إلى الهجرة أو الهرب نحو دول الرفاه الاجتماعي في أوروبا، وتحديداً ألمانيا. لكن قبل الوصل إلى الوجهة الأخيرة، يتعرض هؤلاء إلى مخاطر عظيمة، البعض يتم إعادته إلى بلاده، فيما ينجح آخرون في الوصول بعد بذل المال والصحة، أو حتى التوقيف والإذلال. وشهدت الأيام الأخيرة، توقيف خفر السواحل حوالي 61 شخصاً، بعد أن انطلقوا بقاربهم من طرابلس في شمال لبنان نحو الجارة الأقرب، جزيرة قبرص.

"مجموعة الثمانية"

في الأسبوع الماضي، وصل محمد، وهو شاب سوري ثلاثيني، ورفاقه السبعة أخيراً إلى ألمانيا، بعدما خسر نص وزنه، واختبر تجربة الموت والحياة مرات عدة على جانبَي الحدود البيلاروسية - البولندية. وقال أنه "عندما وصلت إلى ألمانيا نسيت كل التعب الذي تعبته، وبدأت صفحة جديدة للحياة الكريمة، لأن الوضع الإقتصادي في لبنان أصبح مدمراً، كما أن العودة إلى سوريا غير ممكنة". إلا أن الحديث مع محمد، يؤكد عمق أثر هذه الرحلة في نفسه، فهو انطلق منذ حوالي الشهرين من بيروت إلى مينسك بطائرة تابعة لشركة فلاي دبي. حجز مقعده في مكتب للسفريات في بيروت، واشترى تذكرة ذهاب وإياب مع فيزا نظامية، بالإضافة إلى حجز فندقي في العاصمة البيلاروسية. حمل أمتعته ومشى. وصل إلى هناك مع مجموعة من الأفراد، وبدأ التواصل مع "مهرّب مجهول الهوية" حسب وصفه. بعد أيام عدة، أمّن المهرب نقل محمد ومجموعة من الشبان إلى منطقة تقرب من الحدود البولندية بحوالي10  كيلومترات.

المسار الخطر داخل الغابات

عبر هؤلاء نحو منطقة الغابات الكثيفة، اعتمدوا على أجهزة الـ"جي بي أس" في تحديد وجهتهم نحو بولندا. وروى الشاب السوري أن "السلطات البيلاروسية ألقت القبض عليهم مرات عدة، وأعادتهم إلى مراكز لتجميع اللاجئين". وأضاف "كان تعامل السلطات البيلاروسية عنيفاً جداً، لم يقتصر على الضرب، وإنما تم تجريدنا من أمتعتنا ورمينا في مياه النهر الشديدة البرودة".
في مراكز التجميع، التقى محمد بأشخاص من جنسيات مختلفة، الأغلبية جاؤوا من العراق وأفغانستان، ولكن هناك  أناس من اليمن، وسوريا، ولبنان، وباكستان، وإيران، ومصر حتى من أفريقيا، وبيلاروس نفسها، الجميع يحاولون عبور الحدود نحو بولندا ومن ثم إلى ألمانيا.
واختبر محمد تجربة النوم في العراء، أمضى حوالي الشهر في الغابات، في ظل برد شديد ونقص في الطعام، حيث استعانوا طوال تلك الفترة بإشعال النار. لكن الإصرار حملهم إلى تكرار محاولة الهروب عشرات المرات، وكانوا "يصلون الليل بالنهار سيراً على الأقدام"، "ولشدة كثافة الأشجار لا يمكن تمييز الوقت، وحدها الشاشة المربوطة بالجي بي أس تشير إلى الإقتراب من بولندا"، موضحاً أن الـ "باور بنك" (أجهزة تخزين الطاقة) "شكلت الوسيلة لابقاء الهواتف مضاءة، فكل واحد جهّز نفسه بجهازَين للشحن على الأقل".
بولندا محطة جديدة

بدايةً، لم تنجح محاولة إجتياز حدود بيلاروس، لذلك حاول الشبان الالتفاف مراراً على الإجراءات الحدودية، إلى أن جاءت الليلة المفصلية، التي أوصلتهم إلى بولندا. وقال الشاب السوري "تعلمنا من تجاربنا السباق، وتعرفنا إلى أماكن أبراج التعقب والمراقبة. لذلك، اختارت المجموعة موقعاً وسطاً بين نقاط تواجد حرس الحدود البولندية، وانتظرت إلى أن تحين الفرصة وحلول الظلام الدامس". وزحف الشبان أرضاً لمسافات طويلة، إلى أن تمكنوا من تجاوز الحدود البولندية والمراقبة. وعادوا مجدداً إلى السير في الغابات بواسطة الـ"جي بي أس" انطلاقاً من نقطة تحميل، حددها لهم المهرّب الذي يُعتقد أنه مقيم في إسطنبول، لأنهم حوّلوا إليه المال إلى هناك، حوالي 4500 دولار لقاء تهريب الشخص الواحد، بعد أن كانت في السابق 2700 دولار.
وفي هذا الصدد، أوضح محمد أن ". دفع البدل يكون من خلال التشييك والشيفرة، عند الوصول إلى ألمانيا أو الوجهة الأخيرة، يتم إرسال مقطع صوتي لأحد الأشخاص بأن يتم دفع المال للشخص الذي ساعدنا في الوصول".
بعد مسير مضنٍ لحوالي  23 كيلومتراً في يوم واحد، وصلت المجموعة المؤلفة من 8 شبان إلى المكان المتفَق عليه مع المهرب، الذي تم تحديده عبر الـ"جي بي أس" ليصبحوا داخل بولندا. هناك بدلت المجموعة ملابسها، ورمت أمتعتها، وانقسم أفرادهاعلى سيارتين. وتابع محمد "كانت الإجراءات الأمنية في بولونيا شديدة للغاية، إذ اضطر الشبان إلى الإختباء تحت المقاعد لاتقاء أنظار القوى الأمنية والتوقيف".
ووصلت السيارات إلى أحد الفنادق في منطقة سالتك، حيث أمضى الشبان ليلة واحدة لقاء 25 دولار للشخص، قبل أن يبدأوا رحلة البحث عن الحلم الألماني.

الوجهة المفضلة: ألمانيا

بعد ذلك، قام "المهرّب" بتأمين سيارة لنقل المجموعة إلى ألمانيا. وبعد عبور أحد الجسور، دخلت المجموعة الأراضي الألمانية في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الأراضي الألمانية، حيث خضع أفرادها لفحص طبي، وتلقوا اللقاح المضاد لفيروس كورونا ولقاحاً ضد الانفلونزا، وتم نقلهم إلى مركز إيواء (كامب) لقضاء فترة الحجر الصحي. وتستمر إقامة الأشخاص في "الكامب" إلى حين مثولهم أمام المحكمة في ألمانيا على مرحلتين، حتى منحهم الإقامة المؤقتة كلاجئين. وقال محمد "عندما عبرت الحدود، ارتحت، ونسيت كل التعب السابق"، معتبراً أن "هذه الرحلة تستحق المخاطرة لأن الواقع المعاش في مناطق الشرق الأوسط لا يُحتمل". وهو يخطط للعمل، وتعلم اللغة، وصولاً إلى لم شمل عائلته المؤلفة من 5 أشخاص والمقيمة في لبنان. وقدّر كلفة هذه الرحلة بـ 8000 دولار "من أجل الوصول إلى ألمانيا، وبدء حياة جديدة".

لبنانيون عالقون في تركيا

منذ حوالي أسبوع، شاعت أنباء عن غرق قارب يحمل على متنه عشرات الشبان من الجنسيتين اللبنانية والسورية مقابل السواحل القبرصية، لتستعيد طرابلس الذكرى الأليمة مع غرق أحد القوارب في سبتمبر (أيلول) 2020. وانعكس هذا الخبر صدمةً على عدد كبير من العائلات في شمال لبنان. ظنّ هؤلاء أن أبناءهم، لقوا حتفهم، إلى أن قام بعض الشبان بالإتصال بأهلهم لإبلاغهم بأنهم موقوفون لدى السلطات التركية.
أحمد السيد أحمد (24 سنة) هو أحد هؤلاء الشبان الذين ركبوا قوارب الهجرة غير الشرعية نحو قبرص وتركيا واليونان، من أجل العبور إلى أوروبا، إذ حملهم اليأس لبيع ما لديهم من أملاك ومدخرات لدفع حوالي 5 آلاف دولار للهروب. باع الشاب سيارته، وأخبر عائلته بأنه ينوي الهجرة، وافقت العائلة على مضض لأن "الوضع الإقتصادي صعب للغاية، وقد تكون الهجرة سبباً لبدء حياة أفضل، وتأسيس عائلة والإنفاق عليها". وكان الإنهيار الإقتصادي ألقى بثقله على الشاب الذي يمتهن حرفة الصياغة وصناعة الذهب، إلا أن ارتفاع سعر صرف الدولار عصف بمهنته كسائر المهن.
وما أن انقطع الإتصال بالشبان، حتى عاشت عائلة السيد أحمد حالة من الإضطراب والخوف، إذ ظنّت لثلاثة أيام أن ابنها قد غرق. وما زاد من حالة الهلع أنه "الشاب الوحيد في العائلة".
واعتصمت مجموعة من أهالي هؤلاء الجمعة 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أمام منزل رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي في مدينة الميناء طرابلس، للمطالبة بجلاء مصير أبنائهم والتواصل مع الجهات المختصة في قبرص وتركيا لتحديد الجهة التي أحبطت رحلتهم، وإطلاق سراحهم وإعادتهم إلى وطنهم.