الجمعة 10 أيار 2024

تقارير وتحقيقات

لبنانيون يروون حياتهم وتفاصيل إقامتهم في مخيمات بيروت الفلسطينية


النهار الاخباريه- طرابلس – احمد عثمان 

لطالما سمعنا قصصاً وحكايا كثيرة عن المخيمات الفلسطينية ولاجئيها. نقرأ عنهم، نزورهم متوغلين في حيا تهم. حفظنا النكبة الفلسطينية، وأدركنا كيف ظلموا هؤلاء عندما شردوا من قراهم. توافدوا الى بلدان متنوعة، وراحوا يعيشون في الشتات. 
من يعرف أزقة المخيم ودهاليزه، يدرك صعوبة العيش هناك. وكثيراً ما تستحضر صعوبة العيش في سياق «صعوبة» القضية الفلسطينية. لكن، وسط لاجئي المخيمات، هناك زمرة من جنسيات غير الفلسطينية. وبالتحديد: هناك عائلات لبنانية. كيف يعيشون؟ وما أسبابهم في تلك الحياة؟ ماذا تعلموا منها؟ وأشياء أخرى... 
فاتورة الكهرباء 15 ألفاً 
كان محمد فقيه يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً عندما نزح، مع عائلته من وادي أبو جميل الى بيروت عقب انتهاء الحرب الأهلية. حينها، كانت إيجارات البيوت باهظة الى حد ما. فما كان من الأب إلا أن قرر العيش في مخيم «برج البراجنه 
لم يشعر الشاب حينها بأي اختلاف عن حياة «أبو جميل»، سوى أنه راح «يزرع» صداقات متنوعة مع الشبان الفلسطينيين. كانت حياتهم عادية، واعتبروا المنزل بمثابة مخدع لهم، لا أكثر ولا أقل. الوالد استمر في عمله في محل الألبسة الواقع في منطقة البربير، وهو سيتوفى بعد عامين. 
كبر محمد، وكذلك شقيقه علي الأول بدأ العمل في مهنة الطلاء، أما الآخر فقصد أحد المطاعم ليعمل فيها نادلاً. استمرت حياتهم بهدوء، كأي حياة أخرى. وفي أحد الأيام، تعرف محمد إلى فتاة فلسطينية كان يطلي منزل عائلتها، وبعد أشهر، أصبحت شريكة حياته. محمد بدأ يحصد ما زرع. 
المنزل الصغير، سينقصه شاب ترعرع فيه. شيّد محمد منزله فوق منزل العائلة، وكلّفه مبلغ 20 ألف دولار، لا يزال يسدد مستحقاته. تجلس والدة محمد، الذي أصبح والداً لطفل وطفلة، في منزلها المتصدع الأركان: غرفتان صغيرتان ومرحاض. الجدران عارية من الطلاء، والأرض مسطحة دون بلاط. وأثاث رث، فقير. 
فقر العائلة ليس معيباً. يتحدثون عنه مرور الكرام. ترفض الأم الكلام، إذ عادت لتوها من سجن رومية، حيث يقبع ابنها علي. نصعد الى الطابق العلوي، حيث يقطن محمد، فيبدو اختلاف ليس بسيطاً، على مستوى الأثاث والديكور. 
اكتسب محمد من حياته في المخيم اللكنة الفلسطينية. يقول إن شقيقاته أيضاً يتحدثن اللكنة نفسها، علماً أنه عندما حضر للعيش هنا، كان يتحدث اللكنة اللبنانية الجنوبية. يقول فقيه «تعلمتُ بعض العادات أيضاً، وكانت خطوبتي على الطريقة الفلسطينية: ليرة ذهب مقدم، وحفلة على السطح». 
أصدقاؤه كلهم فلسطينيون، على الرغم من وجود بعض العائلات اللبنانية في المخيم، والذين يعدّون على الأصابع. يتحدث فقيه عن وفاء الفلسطينيين في المخيم، وعدم تمييزهم عن أقرانهم. هي حياة متعبة، لكنها مقبولة: «فاتورة الكهرباء 15000 ليرة لبنانية، والمياه 5000 ليرة. مثلنا مثل اللاجئين». لكن، في الوقت نفسه، «الشتاء يحلّ هنا صيفاً شتاءً»، يردف ضاحكاً. 
بس تتيسّر، منعبيها 
توجهت سعاد إبراهيم إلى مخيم «البرج» إبان الاجتياح الاسرائيلي. كانت تبلغ من العمر 12 عاماً. شبح كلمة «مخيم» كان يسطو على مخيلة الفتاة منذ صغرها. لكن قرار الأب كان حاسماً، نظراً لظروف العيش القاسية التي كانت مفروضة على الجميع، فجمع العائلة وأتى بها إلى المخيم. 
تجلس السيدة الأربعينية في دكان ابنها اليافع. هي منشغلة في ترتيب البضاعة، التي تدل على نقص وفير. تبتسم وتقول: «ان شاء الله بس تتيسّر، منعبّيها». يقع الدكان على مقربة من مدخل المخيم، حيث تقطن الحاجة سعاد مع زوجها الخياط، وأولادها. 
لا تنكر سعاد التوجس الذي يعيشونه عندما تنشب مشاكل في المخيم، وتتذكر الحادثة الأخيرة التي وقعت بسبب الخلاف على مسجد «الفرقان». تتنهد ثم تقول: «لا يسعنا سوى العيش هنا، والحمدلله فإننا ننعم بمعاملة جيدة من جيراننا الفلسطينيين. إنهم محبون، ويخافون علينا». سعاد لا تزال محتفظة بلكنتها اللبنانية. 
على عكس فقيه، تقول الحاجة سعاد إنها تدفع فاتورة الكهرباء تماماً كالتسعيرة المفروضة على اللبنانيين في خارج المخيم. فقيه - الشاب الذي أصيب اصابة بالغة في احدى التظاهرات الفلسطينية - تعلم طبخ مأكولات فلسطينية كـ»المحمّر» و»البيصارة»، أما الحاجة سعاد فقد تعودت على المأكولات اللبنانية. يقول فقيه إنه لا يشعر بأنه لبناني، فقد تعود على حياة الفلسطيني. سعاد تميّز بين حياتها في هذه البقعة، وبين جذورها. 
في مخيم شاتيلا 
تتحول الحفر الاسمنتية الى جداول صغيرة، كلما هطلت أمطار على مخيم «شاتيلا». يحظى المخيم بأزقة أوسع من مخيم «برج البراجنة»، ويزيد عدد العائلات اللبنانية في شاتيلا عن رقم اللبنانيين في «البرج». 
تتشابه آراء اللبنانيين حول حياتهم في مخيم فلسطيني، تماماً كتشابه أسباب تقاطرهم اليه: التهجير الذي لحق بهم من «وادي أبو جميل». لكن في مخيم «البرج»، هناك من بقي فيه لأنه أبصر النور على منزل أو دكان في تلك الرقعة، ومنهم من عاد بعد حين، ليستقر في المبنى الذي يملكه في «البرج». 
ينقطع التيار الكهربائي بغتة. خلف منضدة حديدية، تجلس فتاة عشرينية، اسمها أمل. هي لبنانية، وقد أتت لتعيش في مخيم «شاتيلا» مع عائلتها منذ العام 1996، قبلها، كانوا يعيشون في منطقة حي السلم في منزل بالإيجار. 
لا تسهب أمل في حديثها، بل تفضل الاقتضاب في اجاباتها. تقول إن والدها ارتأى ابتياع منزل في المخيم عوضاً عن استمرار العيش في منزل ليس ملكاً له. درست أمل في «النجدة» لفترة قصيرة، ثم انتقلت الى الحقل المهني، وهي تعمل حالياً في محل «فوبيجو». أما والدها، الأب لثلاثة شبان، فهو نجار 

تقول الفتاة إن الحياة هنا طبيعية جداً. من لا يعرف المخيم، يتخيله «بعبع»، ويكفي المرء أن يتفوه بكلمة مخيم حتى تتفتح خلايا المخ مولدة صوراً سوداء عن حياة يجهلونها. لكن، على الرغم من التخيلات المسبقة للمنطقة التي تقطن فيها أمل، فهي لا تخجل من أن تدعو صديقاتها الى المنزل. 
لم تكترث أمل، في يوم من الأيام، لرأي أي من أصدقائها. تقول إن جميعهم يتوافدون لزيارتها من دون الالتفات لطبيعة المكان: «لكن ما لا شك فيه، إنهم في بادئ الأمر توجّسوا. بالمناسبة، هم من جميع الطوائف وميسورو الحال». انها حياة طبيعية. جيران عائلة أمل فلسطينيون، وكل في حاله. 
هم ضيوفنا أم نحن ضيوفهم؟ 
يعود التيار الكهربائي ليوزع ذبذباته الكهربائية على منازل المخيم. نحن في منزل الحاج «أبو علي قطيش». غرفتان، مطبخ، ومرحاض.. منزل عادي، يدلف الزائر اليه من باب حديدي عتيق. يصحو الرجل من كبوته. 
سكنت العائلة، قبل قدومها الى مخيم «شاتيلا»، في «وادي أبو جميل»، وهي، كسواها من العائلات، هجرت من هناك. لم يتمكن رب العائلة من شراء منزل بسيط في الضاحية، ثم خبر من أصدقاء له أن أسعار الشقق في المخيم رخيصة، وهكذا كان. 
منذ 16 عاماً، وعندما استقرت العائلة في المخيم، اقتصرت علاقات أفرادها مع قاطنيه على السلام. ولكن، سرعان ما تطورت العلاقات مع مرور الأيام، حتى راحت تأخذ أبعاداً متفاوتة، صبت في نهاية المطاف بما يسمى الجيرة، والتي لم تنحصر في اطار التسلية فقط، بل كانت تتشارك في السراء والضراء. 
تقاعد قطيش من وظيفته في بلدية بيروت منذ عام ونصف. يقضي الرجل معظم وقته في المنزل، وفي بعض الأحيان، يذهب للمشي في شاتيلا، أو يتوجه للدردشة مع أقرانه في المخيم. يتحدث «أبو علي» عن حياته في المخيم، قائلاً إنه سعيد بمعاملة الفلسطينيين لهم، فهم لا يميزون بين فلسطيني ولبناني. 
جل ما يطلبه الرجل هو تحسين الوضع المعيشي في المخيم، بدءاً بالكهرباء والمياه، وصولاً إلى الطرقات والبنى التحتية. مطالب توافق عليها زوجته، لكنها تذعن إلى أن «العيشة هون، مقارنة بصبرا.. أحلى عيشة». تطفو الحماسة في الحديث، من وجه أم علي. انها مقتنعة بما كتب لها. تردد: «القناعة كنز لا يفنى». 
نسأل أم علي: «هل تعتبرون أنفسكم ضيوفاً عند الفلسطينيين، أم العكس؟». تصمت لبرهة، ثم تجيب: «طبعاً نحن ضيوف عندهم»، فيقاطعها زوجها «له يا حجة! هم ضيوف على أراضينا». يدور شجار مضحك بينهما، ثم يخلصان الى حل مرضٍ للطرفين: «في السياسة، هم ضيوف عندنا، لكن في العشرة والحياة الاجتماعية.. لا أحد ضيف عند الآخر»، يقول الزوج، فتهز أم علي برأسها موافقة. 
غيره؟
لا نزال في مخيم «شاتيلا». تزداد حبات المطر وتشتد قوة هطولها. الجداول المائية تتحوّل الى سيول فيضانات تشلّ حركة المرور، سيراً على الأقدام طبعاً. دكان علي الجوني يختلف عن دكان سعاد ابراهيم. انه دكان مليء بالبضائع المتنوعة. 
تدل هيئة الجوني على شخصية «رمادية»: ندبة واسعة على احدى عيناه، كأنها جرح سكين. لحية كثيفة. جثة عريضة المنكبين، وصوت أجش. «أهلين»، يقولها الجوني بهدوء مصطنع. 
يبلغ الرجل من العمر 31 عاماً، هو أب لأربعة أولاد. وقد نزح الى مخيم «شاتيلا» مع عائلته من «وادي أبو جميل» في العام 1991. كيف يجد الحياة هنا؟ يجيب باقتضاب: «حلوة. أحلى من الحمراء». لماذا؟ يقطب حاجبيه، ويشرح: «لأنه الدولة ما بتقدر تلقطني. أنا بين اليوم والتاني بعمل مشكل، وما حدن بيقدر يشدني من هون. غيره؟». 
يصوب الجوني مسار المقابلة الى «السين والجيم»، بدلاً من الدردشة. لا يسهب في الحديث، يجيب على السؤال فقط. ماذا عن علاقتك بأهالي المخيم؟ يترنح في جلسته ويجيب: «زفت. بدك تسألني ليه. لأنن بيفسّدوا عليّ، بس ما بيطلعلن. وكمان، لأنن طائفيين، بيميّزوا كتير. قد ما بدك. غيره؟. 
في الوقت نفسه، يقول الرجل إن أصدقاءه، كلهم، فلسطينيون، وهم أوفياء له. هؤلاء يشكلون نسبة العشرة في المئة من المجموع، أما التسعون فلا يكترثون إلا لأنفسهم. كيف؟ الجواب واضح: الوشاية عن مكانه  يقول الجوني إنه لو خيّر بين العيش في ألمانيا وبين الحياة في المخيم، يختار المخيم بلا تردد. لماذا؟ «لأنو الوضع الأمني هون تمام غيره؟ 
شكراً. المقابلة انتهت.