السبت 4 أيار 2024

تقارير وتحقيقات

سوق "البلاط" يروي أسرار العلاج بالأعشاب وعقاقير السحر في تونس

النهار الاخباريه.  باسل ترجمان  تونس. 

داخل أسوار المدينة التي تحتضن حكايات تاريخ يعود لمئات السنين وغير بعيد عن جامع الزيتونة المعمور الذي يتوسط تونس العاصمة ويحيط به عديد الأسواق التي نشأت بقربه وخلقت حركة تجارية واقتصادية على امتداد الزمن يتربع سوق "البلاط" حاملاً في محلاته ولدى الباعة الكثير من الأسرار والحكايات.

بعكس بقية الأسواق في تونس العاصمة التي حملت أسماء المهن التي تجمعت فيها مثل سوق الشواشية وسوق النحاس فإن سوق البلاط والذي بني قبل ما يقارب الألف سنة في زمن الدولة الحفصية التي تأسست سنة 1160 ميلادي حمل اسم غير متداول ومستغرب، ويقول السيد شوقي الفورتي تاجر أعشاب في السوق ورث الحانوت الذي يعمل به أباً عن جد منذ أكثر من 140 عاماً إن هذه التسمية جاءت متأخرة عن بناء السوق وأصلها مرتبط "ببلاط الملك" من باب التفخيم والتقدير وكان التجار القادمون من اسطنبول والمشرق يضعون الأعشاب والأدوية التي يحضرونها معهم في محلات السوق القريب من الجامع الأعظم والذي يضم أيضاً خلوة إمام الصوفية الشيخ أبا الحسن الشاذلي.

توارث المهنة 

داخل محلات بيع الأعشاب الطبية في السوق تختفي حكايات الأباء والأجداد والمهنة التي يصعب تعلمها دون أن تأخذها بالتجربة التي تتحكم فيها عائلات تورث الأبناء والأحفاد أسرارها، الجميع يتحدث عن ذلك لكن التفاصيل حول هذا العلم تبقى حبيسة الصدور والسؤال بين البائع ومن يبحث عن عشبة فيها دواء من مرض مزمن أو عارض مر به لا تتعدى الكلمات البسيطة وشرح كيفية الاستعمال، ويقول الحاج عمار الكاسح والذي يعمل في السوق منذ 37 عاماً إن الطب البديل وطب الأعشاب علم وليس تجارة للاحتيال على الناس ومن يأتي للسوق يعرف بما علمه من آخرين فوائد الأعشاب لأمراض محددة وكثيرون يأتون للسوق ويكون الجواب أن أذهب للطبيب للتشخيص ومعرفة المرض قبل السؤال عن العلاج بالطب البديل.

تنتشر في سوق البلاط الأعشاب الطبية بمختلف الأشكال والألوان 
 

الرمان والريحان والخلنج

ويضيف السيد الكاسح في حديثه أن الأعشاب التي يقبل عليها التونسيون بكثرة هي علاجات للتوتر العصبي وأوجاع المعدة ومرض السكر الذي ثبت باعتراف الأطباء فوائد بعض الأعشاب في علاجه وخفض مستوياته لدى المرضى.

وهذه الأعشاب إن لم تنفع المريض فإنها لا تضر وليس فيها خلطات أو مواد كيمائية بل من الأعشاب الموجودة في الطبيعة التي اكتشف الإنسان فوائدها عبر التجربة والمراقبة والاستعمال في الأزمنة التي سبقت اكتشاف الأدوية الحديثة.

شقيقه الأكبر حسن يقف في محل مجاور له في السوق حيث تتقاسم هذه العائلات ما يسمونه "أسرار الحكمة" في معرفة الأعشاب وخلطاتها فوائدها واستعمالاتها يحافظون عليها ومعرفة ما لا يوجد منها في تونس والبحث عنها واستيرادها.
حبات صغيرة أشبه بالكرات قشرتها قريبة من لون البطيخ شديد المرارة لكن فوائدها كبيرة جداً لأمراض المفاصل والروماتيزم تدهن به الأماكن المصابة ونتائجه في العلاج الموضوعي جيدة بحسب من استعمل هذا النوع من العلاج.

وللسحر حكايات أخرى 

ارتبط اسم سوق البلاط في الخيال الشعبي في تونس ببيع "عقاقير السحر" في تونس وبما يمكن أن يصوره الخيال عن السحر وأفعاله وما يستعمل فيه من مواد تباع في السوق. قال السيد توفيق بن يعقوب إن كل المواد التي تباع في السوق مثل كل المواد التي تباع في العالم يمكن أن تستعمل للخير والشر معاً، وأضاف لـ"اندبندنت عربية" أن البخور وبعض الأحجار التي تستعمل لتعطير الأجواء في المنازل يستعملها البعض لـ "غايات شيطانية" ولكن ليس من يبيعها له هذا الهدف.

وأضاف أن تاريخ تونس زاخر بمن كتبوا كتب الحكمة وبعض هذه الكتب التي أتت بعد سقوط الأندلس تضمن بعضها كتابات حول علاج الأمراض الروحانية، وكانت هذه الأمراض حينها تعتبر مساً من الجن أو السحر وكان علاج هؤلاء يختلط بين الدواء والبخور والعلاج الروحاني الذي فتح الباب لما يسمى اليوم بعقاقير السحر.

وأضاف أن "بعض ممن امتهن الحكمة كان من معادن الشياطين فحولها نحو السحر وخزعبلاته، والسوق بغنى عن هذه المواضيع لأن ما يباع في السوق هو المواد بحالتها الطبيعية ولا يحتاج من يعملون فيه لأن يشوهوا وجهاً مشرقاً للعلم في تونس بحكايات كهذه". 

ماذا يخبئ المستقبل للسوق؟

وسط هذه المحلات التي يعود بعضها لما يزيد عن القرن من الزمن ينظر أصحابها للمستقبل بقلق رغم الطلب الكبير على الطب البديل والعلاج بالأعشاب بسبب عزوف الشباب عن النظر لمثل هذه المهن والاهتمام بها. 

ويقول التاجر شوقي الفورتي "أخشى أن لا نجد بعد سنوات أي أثر لهذا التراث في سوق البلاط ويصبح الحديث عن محلات بيع الأعشاب من حكايات الماضي طالما لما تتنبه السلطات لضرورة المحافظة على الإرث التاريخي للمنطقة قبل أن يندثر وتغزوه محلات بيع المنتجات الحديثة".