الجمعة 26 نيسان 2024

تقارير وتحقيقات

حفر "المواجل"... تجميع مياه الأمطار للاستغلال المنزلى في تونس العطشى...


النهار الاخباريه  وكالات

منذ أكثر من 3 عقود، اعتاد التونسي، حمادي الشاوش، أن يحمل معوله ومعداته لتلبية طلب أحد الأهالي في حفر "ماجل" داخل بيته، أو صيانته من الشوائب التي تفسد مياهه العذبة.

و"الماجل" هو منشأة عريقة تستخدم لتخزين مياه الأمطار داخل البيوت من أجل استغلالها منزليا، وبعضها صالح للشرب، وهو شبيه بالبئر باستثناء أن عمقه لا يتجاوز 5 أمتار ومياهه ليست جوفية، فهي متأتية من مياه الأمطار التي يتم تجميعها من أسطح المنازل.

وعبر الزمان، كان "الماجل" من أبرز طرق تخزين مياه الأمطار انتشارا في تونس، إذ بالكاد كان يخلو منزل من هذه المنشأة التي يتفنن أهل البيت في تزويقها بالخزف ومواد البناء المزينة.

ومع تغيّر نمط الحياة وأساليب المعمار الذي اتخذ شكل البنايات ذات الطوابق، بدأت "المواجل" في الاختفاء تدريجيا من المنازل التونسية، حتى أن عددها بات يُحصى على أصابع اليد في بعض المحافظات.

عادة تصارع من أجل البقاء

حمادي (47 سنة)، من بين العشرات القلائل الذين ما زالوا يمتهنون هذه المهنة التي باتت تصارع من أجل البقاء نتيجة تراجع الأهالي عن حفر المواجل في منازلهم. يقول لـ "سبوتنيك": "لم تبق العادات على حالها، فقليلون هم الذين يطلبون اليوم حفر "ماجل" في منزلهم".

ويؤكد حمادي أنه "بات يحفر "المواجل" للناس أخذا بالخاطر وليس كمهنة، وأنه قليلا ما يتلقى مقابلا ماديا على ذلك، فهو لا يريد أن يغمر النسيان هذه العادة التي عُرفت بها عائلته على امتداد عقود من الزمن بعد أن توارثتها جيلا عن جيل".

ويبيّن حمادي أن مهمة حفر "الماجل" ليست بالهيّنة، فهي تتطلب جهدا وخبرة ودراية بأساليب البناء والصيانة للإبقاء على مياه الأمطار صالحة للاستخدام والشرب. وتستغرق عملية الحفر من 3 إلى 4 أسابيع، تختم بتثبيت الحجارة داخلها وتغليفها بالإسمنت في شكل دائري تضيق مساحته كلما اقترب من السطح".


وتخبر نرجس  النهار  أن "عائلتها قررت الإبقاء على "الماجل" في منزلهم على الرغم من أنهم غيروا معمار البيت من تقليدي إلى عصري"، وتقول إن "الماجل لا يفسد جمال المنزل بل بالعكس فهو زينة البيت ورونقه".

وأضافت أنها "محظوظة لأنها تروي ظمأها بمياه عذبة وحلوة، بعيدا عن مياه القوارير المعدنية التي لا يمكن مقارنة مذاقها بمذاق مياه الأمطار"، وفقا لقولها.

وأكدت نرجس أن "ما يميز مياه "الماجل" ليس مذاقها الحلو فحسب وإنما برودتها في فصل الصيف، فهي لا تحتاج إلى وضع الماء داخل الثلاجة حتى يبرد لأن طريقة بناء الماجل تبقي على المياه باردة طيلة السنة".

وتابعت: "نحن لا نستخدم مياه الماجل في الشرب فحسب، بل في جميع الأعمال المنزلية كتنظيف البيت وغسل الأواني والثياب.. لقد ساعدنا ذلك على الاقتصاد في فاتورة الماء".
وحول طريقة تجميع المياه داخل "الماجل"، قالت نرجس "يتم تهيئة جزء من سطح المنزل وطلائه بالجير التقليدي مع المحافظة الدائمة على نظافته، ثم يتم ربط ذلك الجزء بميزاب ينتهي بفتحتين، الأولى تتصل مباشرة بالماجل وتزوده بمياه الأمطار، والثانية تتصل بالخارج ومهمتها إخراج المياه في حال بلغ الماجل طاقة استيعابه القصوى أو كانت مياه الأمطار ملوثة".

حل لمجابهة أزمة العطش

ويعتقد بعض الخبراء أن تونس باتت في أمس الحاجة إلى العودة إلى الطرق التقليدية في تخزين مياه الأمطار مثل "الماجل" و"الفسقية" (تقنية هيدروليكية لتجميع مياه الأمطار) كحل من الحلول لمجابهة معضلة العطش وندرة المياه.

ويرى الباحث في الاشكاليات المائية بالمرصد التونسي للمياه، رامي بن علي، في حديث لـلنهار ، أن "الماجل قادر على المساهمة في التقليص من حدة أزمة المياه في تونس وتعبئة الموارد المائية والمحافظة عليها على المستوى المحلي".

وأضاف: "يوفّر الماجل عند بنائه بطريقة مدروسة ومحكمة كميات من المياه تعادل استهلاك الفرد على مدار 6 أشهر، علما وأن التونسي يستهلك معدل 100 لتر من الماء في اليوم".

ولفت الخبير إلى أن "استخدامات "الماجل" تختلف بحسب نوعيته، فإذا كان مهيئا بطريقة جيدة وتتم صيانته دوريا، يمكن استعماله للشرب بعد إضافة كميات محددة من الكلور لأن مياهه راكدة وليست متحركة".

وقال بن علي إن "الماجل يروي تاريخ تونس وقدرة الشعوب التي مرت على ترابها على التأقلم مع وضعية الشح المائي ومع ندرة المياه، من خلال ابتكار المواجل والفسقيات".

ويرى بن علي أن "تراجع التونسيين عن حفر "المواجل" في منازلهم يعود بالأساس إلى تغيّر ثقافة المواطن الذي بات يعتبر أن توفير المياه وتوزيعها هي مهمة الدولة، قائلا "ولكننا اليوم في أمس الحاجة إلى العودة إلى ثقافتنا التقليدية وأن يكون المواطن الحلقة أولى في عملية ترشيد استهلاك المياه والمحافظة عليها".

ويشجّع بن علي على تقنين بناء "المواجل" وأن تفرض الدولة على الباعثين العقاريين إنشاء المواجل داخل البناءات الجديدة وفي الطوابق الأرضية، مع تقديم تشجيعات مالية لحث المواطنين على بناء "المواجل".

التقليص من خطر الفيضانات

وفي تعليق للنهار ، قال الخبير في التنمية والتصرف في الموارد المائية، حسين الرحيلي، إن "التونسي تعامل منذ القدم مع الندرة الطبيعية في مصادر المياه بأكثر ذكاء من التونسي الحالي، فابتكر المواجل والفسقيات وغيرها من التجهيزات التي سمحت له بتجميع مياه الأمطار وتخزينها".

وتابع: "مع التغيّرات الهيكلية للمعمار وتحوّل البناءات من عمودية إلى أفقية، تعاظمت مشاكل مياه الأمطار في المناطق العمرانية خاصة مع التحولات المناخية التي جعلت الأمطار تتساقط في وقت قصير ولكن بكميات كبيرة بشكل عطّل حركة سيلان الماء وهو ما تسبب في الفيضانات".

ويؤكد الرحيلي أن "المواجل قادرة على المساهمة في التقليص من مياه الأمطار بالمناطق العمرانية وبالتالي التقليص من خطر الفيضانات التي باتت تداهم المدن بشكل متكرر".

وأضاف: "يمكن للمواجل أيضا أن تساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي لكل مواطن من مياه الأمطار"، مؤكدا أن "العديد من الأهالي في مناطق الوسط والجنوب الغربي عادوا إلى استخدام المواجل والفسقيات لمجابهة الانقطاع المتكررة لمياه الشبكات العمومية والتقليص من حدة سنوات الجفاف".

ويرى الرحيلي أن "بناء المواجل يجب أن يتحول من اجتهاد فردي للمواطن إلى سياسة عامة للدولة"، قائلا إن "العديد من الدول باتت تقدم الامكانيات والدعم المالي لتشجيع السكان على انشاء المواجل التي باتت تتخذ أشكالا متطورة وتعتمد على آليات حديثة مثل المضخات لتسهيل استخراج منها".

وشدد الرحيلي على "ضرورة أن تتدخل الدولة لحل معضلة ندرة المياه بعيدا عن الحلول الوقتية، خاصة وأن تونس دخلت مرحلة الفقر المائي، مشيرا إلى أن حصة التونسي من المياه باتت دون الـ 400 متر مكعب في السنة، أي أقل من نصف الكمية المحددة دوليا بين 700 و900 متر مكعب".