الخميس 28 آذار 2024

هل يتجدد الخلاف بين دولتي السودان وجنوب السودان؟


النهار الاخباريه وكالات

عن وضع جنوب السودان تنبّؤاً بانفصاله وتحوّله إلى دولة مستقلة، وهو ما حدث في يناير (كانون الثاني) 2011، كتب فرانسيس دينق روايته الشهيرة "طائر الشؤم"، وهي تعالج مفهوم الهوية في سياق زنجي- عربي غير منفصم، ممزوج بتراث قبيلة الدينكا الجنوبية في صراعها مع قبيلة المسيرية الشمالية، ومليئة بالتفاصيل الطقوسية. وتتقاطع فكرة دينق الأولى مع فكرة زعيم "الحركة الشعبية لتحرير السودان" جون قرنق، وهي الوحدة بين الشمال والجنوب ولكن بشرط المساواة في المواطنة واحترام التنوع والعدالة الاجتماعية والسياسية وعدم التهميش في التنمية. فبعد إثبات أن السودان لم يعِش فترة ذهبية من السلام منذ ما قبل الاستقلال، في هذا الجزء من البلاد، لم يكُن الانفصال أمراً مفاجئاً، إذ بقدر ما رُفع مطلب تقرير المصير، فإنه عند كل مفاوضات للسلام تنشب مشكلة تقاسم السلطة والثروة، ويندلع العنف، وقوده الصراع القبلي الراسخ، والحرب التي قادتها الدولة لمواجهة التمرد هناك.

نظراً إلى تركيبة السودان الفريدة سياسياً وجغرافياً ودينياً واجتماعياً، فإن دولة جنوب السودان ورثت تركة مثقلة بالأزمات الناتجة منها، ولم يكُن الانفصال هو الحل الأمثل، فبعد التخلص من الأزمة بين هويتين مختلفتين، ظهر الخلاف الداخلي بين القبائل الجنوبية إلى العلن، بما يحمله من تعقيدات إثنية وسياسية، ولم تفلح الاتفاقات الموقعة بين رئيس الحكومة سلفاكير ميارديت وزعيم المعارضة رياك مشار، وبقية القبائل الموالية لأي من الطرفين في إنهائها.

وإضافة إلى النزاعات الداخلية التي منعت جنوب السودان من القيام بمهمات الدولة، وجدت نفسها في عزلة إقليمية بسبب انشغال السودان بقضاياه الداخلية، وانشغال دول الإقليم بأزماتها ونزاعاتها أيضاً. أما المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي، الذي بارك الانفصال وسارع إلى الاعتراف بدولة جنوب السودان، لم يستطِع مع جهود المنظمات الأممية من إيقاف التدهور الأمني والغذائي. ولم تمنع هذه الظروف بروز القضايا العالقة بين الدولتين من الإطلالة برأسها كل فترة، حتى لو لم يكُن المناخ ملائماً لمناقشتها، ولكن إثارتها ربما تكون وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية لأي من الطرفين.

قضية اللجوء

أدى العنف السياسي والنزاعات في جنوب السودان إلى ازدياد حالات النزوح الداخلي الذي خلّف مشكلات أمنية واقتصادية، لأن الأطراف المتصارعة تستخدم استراتيجية "الأرض المحروقة"، فتقضي على الأراضي الزراعية والمحاصيل والموارد ومناطق الرعي، وفي بعض الحالات وصل الأمر إلى إحراق الماشية انتقاماً، ما تسبب في خسائر اقتصادية ومعنوية لارتباط القبائل هناك بالرعي وتقدير الأبقار بما يتجاوز قيمتها المادية. وأدى ذلك إلى اللجوء لدول الجوار، وكان السودان هو القبلة المفضلة للجنوبيين الذين تداعب كثيراً منهم أشواق الوحدة والعودة إلى السودان في نطاق الدولة الموحدة، إذ لم يجنوا من الانفصال الذي صوّتوا لصالحه في استفتاء شعبي غير الشتات داخل دولتهم الحديثة. ولا تنفك مشكلات الجنوب تتعقّد عاماً بعد عام، ولا يسمع عنه العالم إلا أخبار النزاعات والمجاعة واللجوء.

ولم تكفّ منظمة الأمم المتحدة للأغذية العالمية من التحذير جراء موجات الجفاف الذي وصل إلى ذروته هذا العام، إذ إن "أكثر من 70 في المئة من سكان جنوب السودان سيكافحون للبقاء على قيد الحياة، وتواجه البلاد مستويات غير مسبوقة من انعدام الأمن الغذائي الناجم عن الصراع والصدمات المناخية وفيروس كورونا وارتفاع التكاليف".

وبدأت مدن السودان المتاخمة للحدود الجنوبية تشهد موجات لجوء، ووصل بعضها إلى العاصمة الخرطوم، مستغلة استئناف النقل النهري بين السودان ودولة جنوب السودان عبر ميناء كوستي النهري في سبتمبر (أيلول) 2021، وهو كان متوقفاً منذ أكثر من ثمانية أعوام وظل جسراً إغاثياً يسيّره برنامج الغذاء العالمي لمواطني دولة جنوب السودان. وبعدما كان أحد المشاريع الاقتصادية وشرياناً لنقل البضائع وإنعاش السياحة، يبدو أن الخط النهري الواصل بين الدولتين، سيواجه كثيراً من العوائق الإدارية والمالية والأمنية أيضاً بتفاقم اللجوء.

فعّلت الحكومة الانتقالية مشاركتها في محادثات السلام بين الفرقاء الجنوبيين، إذ عُقدت في الخرطوم محادثات بين حكومة جوبا وفصيل منشق عن "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة النائب الأول لرئيس دولة جنوب السودان رياك مشار. ومن قبل، عُقدت في جوبا محادثات بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة أسفرت عن توقيع اتفاق السلام في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، لإنهاء الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، بين الحكومة وبعض الحركات، بينما رفضت "الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال"، جناح عبد العزيز الحلو، و"جيش تحرير السودان" جناح عبد الواحد محمد نور.

ونسبة إلى عدم الوفاق الداخلي في الدولتين، وبما أن الحكومة الانتقالية ورثت أيضاً هذه المسائل الخلافية من النظام السابق الذي كان يتفادى الدخول في حلّها لاعتبارات عدة، فإن قضية الحدود جاءت على رأسها. ويكمن تعقيد الحدود الفاصلة بين دولتي السودان وجنوب السودان في طولها، وكخطوط مُخترقة من القبائل المتداخلة في البلدين بحكم التنقل والهجرة والرعي.

وتسبب تفادي النظام السابق مناقشة هذه القضية في تعطيل عمل لجنة ترسيم الحدود، إذ لم تحسمها اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) 2005، ثم "بروتوكول أبيي" الذي كان توصيفه انحيازياً بفرضه الرجوع إلى دينكا نقوك، ما عدّته الحكومة تحاملاً على قبيلة المسيرية. وبعدما بحث نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قضية ترسيم الحدود  مع مستشار رئيس دولة جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك، صدر قرار مجلس السيادة بإعادة فتح المعابر بين البلدين، وتنشيط حركة النقل النهري والبري لإنعاش التجارة الحدودية وإعادة تأهيل خط السكة الحديدية الذي يربط مدينتي بابنوسة - واو، في ميناء بورتسودان، في 11 يناير (كانون الثاني) الماضي. واتفقت الخرطوم وجوبا على تنفيذ فتح المعابر وإزالة القيود أمام التجارة وحركة المواطنين في المناطق الحدودية بين البلدين والعمل على حل النزاعات الأهلية فيهما.

قضايا متداخلة

تتداخل مشكلة الحدود التي تبدو في ظاهرها إجرائية فقط، ولكنها أكثر تعقيداً مما يبدو بسبب ارتباطها بمشكلة أعمق هي قضية منطقة أبيي الغنية بالنفط التي فشلت الحكومة في حلها داخل إطار الدولة الواحدة. والآن، تبحث الحكومة الحالية عن حل في ظل تمسك سكان المنطقة من دينكا نقوك من جهة، والمسيرية من جهة أخرى بمواقف متشددة، إذ استحال السلام الدائم بين القبيلتين. وهما كانتا تتشاركان النشاطات الاقتصادية المختلفة التي يغلب عليها الرعي، وهي مشاركة مفروضة بقوة القانون، وكانت الإدارة المشتركة الشمالية- الجنوبية قبل الانفصال تقوم على عدم تجاوز حدود الرعي، ولكن عادة ما تحصل نزاعات، ما يعني أن هذه الحلول مؤقتة. ولما لم تحسم الاتفاقيات المحلية هذه القضية، عُرضت للتحكيم الدولي في محكمة العدل الدولية في لاهاي.

وتتضافر مشكلة الحدود مع مشكلة الجنسية والمواطنة التي ظلت عالقة منذ انفصال دولة الجنوب، إذ إن نص الاتفاقية المحدد للجنسية بعد الانفصال ضبابي ولا يحمل تعريفاً واضحاً. وربما هذا ما فرضه واقع وجود عدد من سكان المناطق الحدودية لا يمكن تمييزهم إلا بالسحنات أو الملامح القبلية. وحتى هذه لن تكون حاسمة، لأن عدداً منهم مولودون في الشمال، وهناك غيرهم لا يحملون أوراقاً ثبوتية. لقد تباينت زاوية الرؤية والتقويم لهذه القضية، فالبعض اعتبر الجنوبيين المولودين في الشمال مواطنين سودانيين، وآخرون رأوا غير ذلك. ثم جاء قرار مجلس الوزراء السوداني بعد الانفصال بإنهاء عمل الجنوبيين في مستويات الحكم كلها وفي القطاع الخاص باعتبارهم أجانب اعتباراً من 9 يوليو (تموز) 2011. وشمل القرار حوالى مليوني جنوبي من مواليد السودان قبل الانفصال.

تعقيدات أمنية

أخذت قضايا ما بعد الانفصال التي اكتشفت حكومتا البلدين أنه لم يُرتّب لها ترتيباً سليماً، وتم تفاديها في كثير من جلسات المفاوضات، طابعاً أمنياً أيضاً، إضافة إلى التعقيدات السياسية والاقتصادية، ولكن أكثرها ارتباطاً بالملف الأمني قضية التسلح. وإن كان النظام السابق قد لعب دوراً فاعلاً في هذه القضية بتسليحه قبائل شمالية موالية له ضد أخرى منتمية إلى الجنوب، فإن ذلك الواقع غير بعيد من التجدد، ولو لم يكُن بسبب النظام، فسيكون بسبب طبيعة القبائل ونزوعها إلى التسلح من أي جهة كانت وبأي طريقة.

في ضوء هذه القضايا، يمكن الوقوف عند ثلاثة عوامل ربما تتسبب في إبرازها إلى سطح العلاقات وسط تكهنات بمزيد من التعقيد الأمني ونشوء مواجهات جديدة. أولاً، عدم الاستقرار السياسي في البلدين، باستمرار النزاعات المسلحة في دولة جنوب السودان، واستمرار الحالة الثورية والحرب في دارفور ومنطقة جبال النوبة والنيل الأزرق في السودان. ثانياً، ربما تؤدي الضائقة الاقتصادية داخل البلدين إلى انفجار قضية النفط مرة أخرى. فبعدما فقد السودان حوالى 75 في المئة من نفطه الذي آل إلى الجنوب بعد الانفصال، ولم تستطِع الخرطوم إدارة النسبة المتبقية، ثم عطّلت الحرب في الجنوب الإنتاج هناك، قد تلجأ الحكومتان إلى المطالبة به، أو تُخلق بعض التعقيدات في ما يتعلق برسوم عبور النفط عبر الشمال إلى ميناء بشائر شرق السودان للتصدير. ثالثاً، على الرغم مما يظهر حالياً من تناغم بين حكومتي البلدين، وإشراك كل بلد الآخر في المفاوضات بين الحكومة ومعارضيها، فإن احتمال تغيّر الوضع بوصول قوى المعارضة في أي منهما إلى الحكم، ربما يؤدي إلى الدخول في مواجهات حادة وعدم الركون إلى الحلول السلمية.