السبت 20 نيسان 2024

متى يشعر المصريون بنقص المياه؟

النهار الاخبارية - وكالات 

عادت أزمة سد النهضة إلى الواجهة مرة أخرى مع استعداد إثيوبيا للملء الرابع، وعادت التصريحات المصرية الحادة، فما الذي يخشاه المصريون فعلاً إذا كان الأمر تكرر 3 مرات من قبل؟

فمنذ أن بدأت إثيوبيا في حجز مياه النيل خلف السد المثير للجدل، أو ما يعرف بعمليات الملء، تكررت هذه العملية 3 مرات دون أن يبدو أن هناك تأثيراً مباشراً على حصة مصر من مياه نهر النيل، وهو ما يطرح السؤال بشأن الملء الرابع، الذي أظهرت صور الأقمار الصناعية أن إثيوبيا تستعد له، وماذا عادت التصريحات الحادة من القاهرة هذه الأيام؟

وتتطلب الإجابة عن هذا السؤال رصد قصة مياه النيل وحصة مصر التاريخية منها ومتى يمكن أن يؤثر سد النهضة الإثيوبي على هذه الحصة. الأمر خطير بالفعل، فمصر هي هبة النيل وبدون مياهه قد لا تكون هناك حياة من الأساس.

وكانت صحيفة The Independent البريطانية قد تناولت "النزاع الخطير بشأن السد الإثيوبي على النيل"، في تقرير خلصت فيه إلى أن تلك الأزمة قد ينتج عنها أول حروب المياه على الكوكب في القرن الحادي والعشرين.

ماذا قالت مصر قبل الملء الرابع؟
التصريحات المصرية الأخيرة التي تميزت بالحدة والقوة بشأن سد النهضة الإثيوبي، تمثل التفاتة مهمة جداً حتى لو كانت متأخرة بعض الشيء، إلى الأزمة التي تستحكم حلقاتها يوماً بعد يوم لتتحول إلى كابوس، مع مواصلة أديس أبابا إجراءاتها الأحادية مثل عمليات الملء المتتالية والتشغيل من دون اتفاق مع دولتي المصب، وهو ما قد يهدد الحياة والاستقرار فيهما.

مرت شهور طويلة منذ الملء الثالث لسد النهضة في صيف 2022، تراجعت خلالها القضية على رادار الإعلام والتصريحات المصرية، لكن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عاد للحديث إعلامياً عن القضية، قبل أيام، مستخدماً تصريحات حادة تُذكّر بتصريحه الشهير في مارس/آذار 2021، قبل الملء الثاني للسد.

آنذاك حذَّرَ الرئيس المصري من أنه "لا يمكن لأحدٍ أن يأخذ قطرة ماءٍ واحدة من مصر"، مضيفاً: "اللي عايز يجرب، يجرب"، ثم وقَّعَت مصر والسودان اتفاقاً عسكرياً في الشهر ذاته، بعد زيارة قائد الجيش المصري للخرطوم. وفي يونيو/حزيران، سعى البلدان إلى ممارسة الضغط على أديس أبابا عندما أجريا مناوراتٍ عسكرية واسعة النطاق لـ"حماة النيل" بالقرب من حدودها. 

وفي وقتٍ لاحق، قرَّرا رفع النزاع إلى مجلس الأمن؛ في محاولةٍ منهما لإيجاد مخرجٍ من المأزق الراهن. ورأت إثيوبيا في القرار خطوةً لإفشال وساطة الاتحاد الإفريقي المستمرة منذ عام، بينما يقول محلِّلون إنّ رفع النزاع إلى مجلس الأمن يكشف أن البلدين يزدادان بؤساً.

لكن كل تلك الخطوات لم تمنع إثيوبيا من المضي قدماً وتنفيذ الملء الثاني، ثم تكرر الأمر في صيف 2022 وتم تنفيذ الملء الثالث.

لكن فجأة وخلال مؤتمر صحفي، الأسبوع الماضي، في القاهرة، جمعه مع رئيسة وزراء الدنمارك ميتا فريدركسن، قال السيسي إن "مصر الدولة الأكثر جفافاً في العالم، وليس لديها فرصة لتحمّل أى نقص من المياه في أي وقت من الأوقات"، وأشار الرئيس المصري إلى أن مصر "بذلت 10 سنوات من الجهد والحرص من جانبنا لإيجاد حل مناسب من خلال التفاوض، ونتفهم التنمية فى إثيوبيا ونقول ذلك فى كل مناسبة، ومستعدون للتعاون معهم في ألا يؤثر على المواطن المصري بأي شكل من الأشكال".

وأتبع تصريحات السيسي حديث آخر لوزير المصري الخارجية سامح شكرى، الذي أكد قبل أيام قليلة خلال لقاء مع نظيره الكيني، "تمسك مصر بضرورة التوصل لاتفاق قانوني ملزم لقواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي"، ومشدداً على أن "الدولة المصرية ستدافع عن مصالح شعبها وستتخذ من الإجراءات ما يقود إلى ذلك".

إثيوبيا تستعد للملء الرابع لسد النهضة
وأكدت أديس أبابا مضيها قدماً في استكمال بناء السد، ودعت إلى حل الخلاف داخل البيت الإفريقي. وقال المتحدث باسم الخارجية ميليس إلم، إنّ نهر النيل إفريقي، ويجب حلّ الخلافات بشأنه في البيت الإفريقي، مطالباً بوقف إحالة ملف سدّ النهضة إلى مجلس الأمن الدولي أو جامعة الدول العربية.

تزامنت التصريحات المصرية الحادة، والتي سبقها صدور قرار جديد من الجامعة العربية بشأن أزمة السد الإثيوبي، مع نشر صور أقمار صناعية، حصلت عليها وكالة سند للتحقق الإخباري من شركة "ماكسار" الأمريكية، تظهر عملية الإنشاءات الجارية، والتعلية في سد النهضة لتجهيزه للتعبئة الرابعة.

وكان مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، قد أصدر الأسبوع قبل الماضى، قراراً بشأن سد النهضة بالإجماع، يدعو أديس أبابا إلى إبداء المرونة في القضية، فضلاً عن طرح الأزمة كبند دائم على جدول أعمال مجلس الجامعة.

وتشير تقارير إعلامية محلية إلى أن لجوء القاهرة إلى الجامعة العربية هو أولى الخطوات التي تعتزم مصر اتخاذها في الفترة المقبلة، وربما تتبعها خطوات أخرى مثل الذهاب مجدداً إلى مجلس الأمن؛ للبحث مجدداً عن حل للأزمة التى تزداد المخاوف بأن تظل تراوح مكانها، في غياب أى اختراق حقيقي، يحمي ويحافظ على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وهو ما يحولها مع مرور الوقت إلى أزمة منسية، نظراً إلى غياب الضغوط الحقيقية التي تجبر أديس أبابا على سلوك طريق التفاوض الجاد للوصول إلى تسوية عادلة للقضية.

لكن أديس أبابا واصلت ردود الفعل نفسها التي باتت معتادة ومفوظة، حيث أبدت الخارجية الإثيوبية غضبها من دخول الجامعة العربية على خط الأزمة، وأعلنت التحدي قائلة إن إثيوبيا "ماضية في ملء سد النهضة"، ومؤكدةً تمسكها بحل "إفريقي" للأزمة.

وأكد المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية أن بلاده مستمرة في استكمال بناء السد، مشيرا إلى أنّ الهدف من ذلك تحقيق مشاريعها التنموية وتوفيرُ الكهرباء لـ 65 مليون إثيوبي يعيشون في الظلام، مشدداً على أن ما وصفها بالاتفاقات الاستعمارية السابقة قديمة ولن تقبلها بلاده.

متى يشعر المصريون بنقص المياه؟
ربما يكون هذا السؤال هو الأهم في قضية سد النهضة برمتها، رغم أن كثيراً من المصريين يرون أن حكومتهم قد صبرت أكثر من اللازم على التعنت الإثيوبي المستمر منذ أكثر من 10 سنوات، وأنه كان لابد من اتخاذ موقف أكثر صرامة قبل أن تبدأ إثيوبيا تعبئة السد من الأساس.

وسد النهضة، الذي تبلغ تكلفته 4.8 مليار دولار، يمتد على مجرى النيل على بُعدِ أميالٍ قليلة من حدود السودان. وبمجرد امتلاء خزان السد، سوف تُنشأ بحيرة اصطناعية من 74 مليار متر مكعب من المياه، ويهدف ضغط المياه إلى تشغيل 16 توربيناً، وتخطِّط إثيوبيا لتوليد 6 آلاف ميغاوات من الكهرباء من خلال هذه التوربينات.

وسد النهضة هذا هو أكبر مشروعٍ للطاقة الكهرومائية في إفريقيا، وتخشى مصر من تأثير السد على حصتها البالغة 55.5 مليار متر مكعب من المياه، بينما السودان تساوره مخاوف بشأن تنظيم تدفُّق المياه إلى سدوده.

ونهر النيل، الذي يبدأ رحلته من بحيرة فيكتوريا في شرق إفريقيا إلى البحر المتوسط، يمثل شريان الحياة للشعوب التي تسكن على ضفافه في إثيوبيا وأوغندا والسودان ومصر، لكن التغيرات المناخية والجفاف يهددان اليوم أطول نهر في القارة الإفريقية، وربما تكون هذه النقطة هي مربط الفرس في النزاع بين القارة وأديس أبابا.

فالقلق المصري يتركز على أنه إذا تزامنت مرحلة تعبئة خزان السد الإثيوبي مع فترة جفاف شديد في النيل الأزرق بإثيوبيا، على غرار ما حدث في 1979 و1987، فلابد من تمديد فترة الملء للحفاظ على منسوب المياه في السد العالي بأسوان من التراجع إلى أقل من 165 متراً.

والمعلومة الرئيسية في هذا السياق هي أن النيل الأزرق، وهو الرافد الرئيسي لنهر النيل والذي شيدت إثيوبيا سدها عليه، يمر بثلاث دورات كل 20 عاماً، تعرف الأولى منها بالسبع السمان إذ يكون هطول الأمطار غزيراً، والثانية تكون نسبة هطول الأمطار متوسطة، وتبلغ ست سنوات، أما الدورة الثالثة فهي السبع العجاف، التي تنخفض فيها نسبة تدفق المياه في نهر النيل بصورة لافتة.

كلمة السر.. سنوات الجفاف
بحسب خبراء المياه، تبلغ تدفقات مياه الأمطار في النيل الأزرق متوسط 50 مليار متر مكعب سنوياً، ترتفع إلى 80-100 مليار متر مكعب في سنوات الأمطار الغزيرة أو الفيضان الغزير.

أما في سنوات الفيضان الشحيح، فإن تدفقات النيل الأزرق تنخفض إلى نحو 25 مليار متر مكعب فقط، والنيل الأزرق عبارة عن نهر موسمي تتدفق المياه فيه من شهر يونيو/حزيران حتى شهر يناير/كانون الثاني سنوياً، وخلال تلك السنوات تعتمد مصر على المياه القادمة من النيل الأبيض والمياه القليلة القادمة من النهرين الآخرين في إثيوبيا، وهما نهري عطبرة والسوباط.

وشهد تدفق النيل الأزرق انخفاضاً لمدة 7 سنوات عجاف، خلال الفترة من 1980 حتى 1987، وبما أن دورة النيل الأزرق تمتد إلى عشرين عاماً منها 7 سمان و7 عجاف و6 متوسطة، فإن أهم ما تريده القاهرة هو أن يكون هناك اتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا؛ حتى تتفادى دولتا المصب، مصر والسودان، إقدام إثيوبيا على احتجاز كميات من المياه خلال السنوات العجاف والمتوسطة تؤثر على التدفق الطبيعي للمياه في نهر النيل.

وفي هذا السياق، من الطبيعي طرح تساؤلات هامة من قبيل: كيف تعاملت مصر من قبل مع السنوات العجاف؟ وما الذي يخشاه المصريون الآن من سد النهضة الإثيوبي؟ 

بالنسبة للسؤال الأول، حدثت الأزمة خلال سبع سنوات (1980 إلى عام 1987)، حيث انخفض تدفق النيل الأزرق في تلك الفترة إلى مستوى تدفق السنوات العجاف والذي يقدر بنحو 20 إلى 25 مليار متر مكعب، وهو ما انعكس على تدفق المياه لنهر النيل، إلا أن السد العالي حد من تعرض مصر لأزمة كبيرة إثر انخفاض تدفق المياه من النيل الأزرق.

فإنه خلال السنوات العجاف في الثمانينيات من القرن الماضي، كان مخزون المياه في بحيرة ناصر، خلف السد العالي، يبلغ 133 مليار متر مكعب بارتفاع أكثر من 177 متراً، وانخفض هذا المنسوب إلى نحو 37 مليار متر مكعب فقط عام 1988، وذلك قبل بدء الفيضان في يوليو/تموز من ذلك العام.

وبحسب خبراء المياه، فإن التخزين في بحيرة ناصر حتى منسوب 147 متراً يوازي نحو 31.6 متر مكعب من المياه، وهو ما يعتبر "تخزيناً ميتاً" مخصصاً لاستيعاب ترسيب الطمي في البحيرة على مدى 500 عام منذ إنشاء السد العالي، وهو ما يعني وصول المخزون الحى للبحيرة إلى نحو 5.4 مليار متر مكعب، قبل أن يأتي الفيضان العالي الذي حدث في صيف العام 1988، ومعه رفع منسوب بحيرة ناصر إلى نحو 168 متراً توازي مخزوناً قدره 89.2 مليار متر مكعب، منها 31 مليار متر مكعب مخزوناً ميتاً، ليبقى نحو 58.2 مليار متر مكعب مخزوناً حياً.

كلمة السر إذاً في الخلاف مع إثيوبيا هي "سنوات الجفاف"، فماذا سيحدث عندما يكون هناك فيضان شحيح؟ رفض إثيوبيا التوقيع على اتفاق قانوني يلزمها بمشاركة اتخاذ القرار بشأن تعبئة وتشغيل سد النهضة مع دولتي المصب يشير بوضوح إلى سوء نية يستحيل إنكاره رغم أن أديس أبابا تصرح بالعكس.

وما يزيد من كارثية الموقف بالنسبة للقاهرة هو أن مصر تعاني أصلاً من فقر شديد في المياه، وهذا ليس أمراً مرتبطاً بسد النهضة، فمصر تحتاج إلى أكثر من مليار متر مكعب من المياه سنوياً، إضافة إلى حصتها الطبيعية من مياه النيل والتي تقدر بنحو 55 مليار متر مكعب تقريباً، وبالتالي فإن أي نقصان لحصة مصر من مياه نهر النيل يمثل تهديداً خطيراً لوجودها ذاته، حسب تصريحات المسؤولين المصريين.

الخلاصة هنا هي أن المصريين يخشون سنوات الجفاف التي ستظهر خلالها التداعيات الكارثية لسد النهضة الإثيوبي، وفي ظل إصرار أديس أبابا على مواصلة التعنت وعدم التوقيع على اتفاق قانوني ملزم، اعتماداً على اتفاق المبادئ الذي وقعته مصر والسودان معها عام 2015، وهو ما يثير التساؤلات بشأن ماذا تبقى للقاهرة من خيارات لتفادي تلك الكارثة الوجودية؟