الخميس 9 أيار 2024

رحلة الغاز الأمريكي التي أنقذت أوروبا من “الشتاء المرعب”

النهار الاخبارية - وكالات 

نجت أوروبا هذه المرة من شتاء مرعب بفضل شحنات الغاز الأمريكي التي عوَّضت نقص الغاز الروسي، فما تفاصيل الرحلة من صخور تكساس إلى منازل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا؟ وما فرص استمرارية هذا الحل؟

صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية تناولت في تقرير لها،  كيف يتحول غاز تكساس إلى وقود طهي في فرنسا، رصد كيف تتمكن المدن الأوروبية من إشعال أضوائها وتدفئة منازلها بفضل الغاز الطبيعي المستخرج من آبار تكساس ولويزيانا، حيث وصلت صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال للقارة إلى مستويات قياسية.

وكانت قضية الغاز الطبيعي تحديداً من أكثر الملفات الشائكة المرتبطة بالحرب في أوكرانيا، نظراً لاعتماد أوروبا بشكل كامل على الغاز الطبيعي المستورد من روسيا عبر خطوط أنابيب ممتدة من سيبيريا إلى قلب القارة العجوز، وسعي إدارة الرئيس جو بايدن إلى تشكيل جبهة غربية موحدة ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

الغاز الأمريكي ينقذ أوروبا
وبعد أن أدى تقليص روسيا صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا بعد اندلاع حرب أوكرانيا، إلى أن تسعى القارة إلى الاتجاه إلى إمدادات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية بشكل لم يسبق له مثيل، وصلت مئات الناقلات المملوءة بالغاز المسال إلى شواطئ القارة العجوز.

وبين عامي 2021 و2022، زادت صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكي إلى أوروبا بأكثر من الضعف، وفقاً لشركة بيانات السلع الأساسية Kpler.

وهذه الواردات، إلى جانب الطقس المعتدل والأسعار المرتفعة التي أدت إلى انخفاض الطلب، ساهمت في حماية أوروبا من خطر فصل شتاء كارثي كان ليضر باقتصادات أوروبا ويترك شعبها يتجمد في الظلام.

ولكن قبل أن تُحرق جزيئات الغاز الأمريكي في محطة توليد كهرباء في إيطاليا، أو في الطهي في إسبانيا وفرنسا أو لإنتاج الأسمدة في ألمانيا، فلا بد من استخراجه من الأرض ومعالجته وضخه في خطوط الأنابيب وتبريده وتحميله على سفينة وتحويله إلى غاز مرة أخرى. وتمتد رحلته عبر حقول الغاز في أبالاتشيا وساحل الخليج، وآلاف الأميال من خطوط الأنابيب؛ وثلاجات عملاقة بمليارات الدولارات؛ وأسطول عالمي من السفن الخاصة.

لهذه الرحلة الطويلة خطوات تبدأ بمرحلة إنتاج الغاز
تستخرج شركات إنتاج الغاز الأمريكية الغاز بصفة أساسية من حوض بيرميان بغرب تكساس ونيو مكسيكو؛ ومارسيلوس شيل، في منطقة أبالاتشيا؛ وحوض هاينزفيل، الذي يمتد في شرق تكساس وغرب لويزيانا. وفي يناير/كانون الثاني 2023، شكلت هذه المناطق حوالي 70% من إنتاج الغاز الصخري في الولايات المتحدة، وفقاً لهيئة معلومات الطاقة.

ويتوقع مسؤولون تنفيذيون ومحللون أن توفر هذه الأحواض، وخاصة حوض هاينزفيل، الكثير من الغاز الطبيعي الذي تحتاجه مجموعة من محطات التصدير المعتزم تشييدها على ساحل الخليج في النصف الثاني من هذا العقد.

بيل واي، الرئيس التنفيذي لشركة إنتاج الغاز ساوثويسترن إنرجي Southwestern Energy، قال لصحيفة وول ستريت جورنال: "نحتاج إلى أبلاتشيا وهاينزفيل على السواء لتلبية احتياجات الغاز الطبيعي المسال".

وللوصول إلى هذا الغاز، يستخدم العمال جهاز حفر عبارة عن أنابيب موصولة بمكبس تحطيم الصخور يغوص في الأرض. وعادةً ما يحفر العمال قرابة ميلين عمودياً، قبل أن يشغلوا المكبس أفقياً لحفر حوالي ميلين في الصخور. ثم تعمل مضخات قوية لضخ المياه والرمل والمواد الكيميائية في الحفرة لتكسير الصخور واستخراج الغاز.

معالجة الغاز الطبيعي المستخرج من صخور تكساس
وبعد انتقال الهيدروكربونات إلى السطح، يتم فصل النفط والغاز في وعاء خاص. وبعد ذلك، يُنقل الغاز إلى مصنع معالجة في خطوط أنابيب ضيقة. وهناك، تُزال المياه والشوائب مثل الكبريت وكبريتيد الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، التي تقلل من قوة الغاز في التدفئة أو تؤدي إلى تآكل الأنابيب. ويُفصل أيضاً البروبان والبيوتان- المنتجات الثانوية لمعالجة الغاز- لبيعهما بشكل منفصل.

مرحلة نقل الغاز
وفور اعتبار الغاز صالحاً لمعايير التوزيع عبر خطوط الأنابيب، تستعين الشركة المنتجة بشركة تتولى نقل الغاز في شبكة خطوط توزيع بطول 3 ملايين ميل. ويقاس حجم الغاز ويُوزّع في خطوط الأنابيب عن طريق 1700 ضاغط غاز في البلاد. والمحطة النهائية للغاز قد تكون مخزناً تحت الأرض، أو شركة توزيع، أو محطة طاقة، أو منشأة تسييل، أو وجهات أخرى. ويُصدَّر حوالي عُشر إنتاج الولايات المتحدة للخارج.

وفي حالة شركة Southwestern Energy، تسوق الشركة ما يقرب من ثلث إنتاجها من أبالاتشيا وهانزفيل مباشرة لمصانع الغاز الطبيعي المسال على ساحل الخليج، وفقاً لمسؤولين تنفيذيين تحدثول إلى الصحيفة الأمريكية.

تسييل الغاز الطبيعي
تضم الولايات المتحدة حالياً سبعة مصانع تسييل بمليارات الدولارات بسعة تكفي لتصدير أكثر من 13 مليار قدم مكعب من الغاز يومياً، أي أكثر من عُشر إنتاج الولايات المتحدة. وبحلول عام 2030، يُتوقع أن تزيد مصانع جديدة هذه السعة إلى حوالي 23 مليار قدم مكعب، وفقاً لشركة S&P Global، وهذا يحتاج إلى الكثير من آبار الغاز الجديدة.

وتعتبر منشأة سابين باس Sabine Pass التابعة لشركة Cheniere Energy Inc، في لويزيانا ثاني أكبر منشأة لتسييل الغاز الطبيعي في العالم. وفور وصول الغاز عبر أربعة خطوط، ينتقل إلى ست وحدات تسييل، أو "قطارات"، كل منها بحجم صالة مطار صغيرة.

وفي البداية، يُعالج الغاز مرة أخرى لإزالة أي ملوثات قد تتجمد في درجات الحرارة شديدة الانخفاض. ثم يمر عبر المحركات التوربينية والضواغط وأكثر من 200 مروحة تبريد.

وتبدأ المبردات -التي تشبه الثلاجات المنزلية بدرجة كبيرة- في تبريد الغاز على ثلاث مراحل حتى تنخفض درجة حرارته إلى 260 درجة فهرنهايت تحت الصفر ويتحول إلى سائل. وبوصوله إلى هذه المرحلة، يكون حجم الغاز قد تراجع إلى  1 /600 من حجمه الأصلي. وبعد ذلك يُخزَّن الغاز الطبيعي المسال في خزانات كبيرة تكفي لاستيعاب طائرة شحن.

وتنقل خطوط الأنابيب الغاز الطبيعي المسال لسفن مصممة لهذا الغرض، كل منها بطول برج إيفل تقريباً. وخلال حوالي 20 ساعة، يُضخ الغاز الطبيعي المسال في خزانات السفن عبر أنابيب خاصة. وفي ديسمبر/كانون الأول 2022، نقلت السفن 41 حمولة من منشأة سابين باس، وفقاً لوزارة الطاقة.

وحمولة سفينة واحدة تساوي تقريباً طاقة تكفي لتدفئة أكثر من 43 ألف منزل أمريكي لمدة عام، وفقاً لوزارة الطاقة.

تصدير الغاز المسال إلى أوروبا
بفضل البنود المرنة في معظم عقود التصدير الأمريكية، بإمكان المشترين إرسال الغاز إلى أي مكان يحقق فيه أعلى سعر. وبعد وصول أسعار الغاز إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في أوروبا العام الماضي، وضعت القارة يدها على شحنات كانت متجهة إلى آسيا، لتترك دولًا مثل باكستان تصارع لتجد بدائل للوقود، وتثري التجار. والجزء الأكبر من أرباح شركة شل PLC في الربع الأخير البالغة 9.8 مليار دولار كان مصدرها قسم الغاز الطبيعي المسال.

وتم شحن حوالي 72% من 44 مليون طن متري من الغاز الطبيعي المسال الذي تنتجه شركة Cheniere في منشأتي تصديرها عام 2022 إلى أوروبا، وفقاً للشركة.

وعادة ما تستمر العقود من 15 إلى 20 عاماً، لتوفير ضمانات للبنوك التي تمول مصانع الغاز المسال، بحيث يتمكن المصدِّرون من سداد قروضهم. ودفع التهافت على الغاز العام الماضي كثيراً من الشركات الأوروبية إلى الالتزام بمدد طويلة الأجل لضمان توفير الإمدادات، لكن المخاوف المتعلقة بالبصمة البيئية للميثان- المكون الأساسي للغاز الطبيعي- الذي ينبعث منه الكربون عند الاحتراق، تُقلق كثيرين في القارة من توقيع عقود أخرى، وفقاً لما قاله مسؤولون تنفيذيون ومحللون.

يقول مارسيلوس كاتالانو، مدير شركة Berkeley Research Group الاستشارية: "هذا أشبه بعلاقة حب وكره في الوقت ذاته".

توصيل الغاز
بعد رحلته في المحيط، يُفرّغ الغاز الطبيعي المسال في محطة إعادة تغويز على اليابسة أو على سفينة أخرى يمكنها تحويل السائل إلى غاز مرة أخرى. وتخطط دول الاتحاد الأوروبي لبناء محطات التسييل خلال السنوات المقبلة؛ ويقدر الاتحاد أن توقف واردات الغاز الروسي ستكلفه ما لا يقل عن 315 مليار دولار من خدمات البنية التحتية حتى عام 2030.

ولتسريع إقامة بنيتها التحتية، تستأجر أوروبا سفناً تعمل كمحطات عائمة لإعادة الغاز إلى حالته الغازية. وفي ألمانيا، ستوفر إحدى هذه السفن في فيلهلمسهافن وقوداً كافياً لتعويض حوالي 11% من واردات غاز البلاد من روسيا، وفقاً لشركة المرافق الألمانية Uniper SE.

وفي محطة التسييل، ترفع المبادلات الحرارية درجة حرارة السائل لتحويله إلى غاز مرة أخرى. ثم تُضخ رائحة في الغاز، الذي هو عديم الرائحة أصلاً، ليُستخدم بأمان. ثم يمر الغاز عبر جهاز قياس قبل توزيعه.

ومن هناك، يُضخ الغاز في خطوط الأنابيب ويشق طريقه إلى المخازن تحت الأرض والمصانع ومحطات الطاقة والمنازل.

وقد ساعد الشتاء المعتدل والواردات الهائلة من الغاز المسال الأمريكي في إعادة تخزين الغاز بمستويات آمنة في أوروبا. لكن يوجين كيم، مدير الأبحاث في شركة استشارات الطاقة وود ماكينزي، قال إن انقطاعات محتملة في صادرات النرويج من الغاز، وانتعاش اقتصادي في الصين، وتجدد المنافسة على الغاز من جانب دول جنوب شرق آسيا إذا استمرت أسعاره في الانخفاض، قد تستنفد مخزونات أوروبا. وقال إنه لو تحقق هذا السيناريو، فـ"عبء تخزينه من جديد سيزداد".