الأربعاء 8 أيار 2024

المخدرات الرقمية تمحي العقول


النهار الاخباريه. وكالات

في في ثمانينيات القرن الماضي، واجه العالم تحديا شرسا عندما قرر القضاء على إدمان المخدرات، الذي تراكمت آثاره من القرن التاسع عشر ووصل ذروته في سبعينيات القرن العشرين. وقد تزامنت ذروة إدمان المخدرات مع دعوات تنادي بالتحرر من جميع أنواع القيود التي يفرضها المجتمع، التي تكبت الحريات الشخصية.. والنتيجة، أن أدمن عدد غفير على المخدرات، التي تحولت إلى جائحة عجز العالم عن القضاء عليها بالوسائل العنيفة من مداهمات أمنية وعقوبات قانونية مغلَّظة.
ومن الغريب، أن خطر المخدرات بدأ ينزوي لحد كبير مع استخدام القوة الناعمة، التي كانت في ذلك الوقت الترويج لممارسة الرياضة من خلال وضع الأبطال الرياضيين في أطر الدعاية والإعلان، وزيادة جرعة أفلام الحركة (الأكشن) بأبطالها من ذوي الأجسام الرياضية، والحالة الصحية الممتازة، بالإضافة لعقولهم المستنيرة التي تؤمّن لهم مهارات علمية يستغلونها في خداع الأعداء.
لكن، المعركة ضد الإدمان التي كسبها العالم من قبل، استطاعت الرقميات هزيمتها بسهولة تحت مظلة وسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت العالم بأسره يدمنها. وأكبر دليل عند انقطاع إرسال الفيسبوك عالميا لمدة ست ساعات، جعلت العالم بأسره ينتابه شعور بالوحدة وقلة الحيلة، في ظل غياب الفيسبوك الذي كان يوفر وسيلة سهلة للتواصل على جميع الأصعدة، والتفكير في وسائل تواصل أخرى بدا أكثر صعوبة. الفراغ الذي خلَّفه الفيسبوك أكد أنه بات ركنا أصيلا في الحياة اليومية، لما رسخه لنفسه من مكانة مميزة.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على سكان العالم الأول، بل تستشري حتى في أفقر دول العالم. أما الخطر الداهم، فهو أنه مقارنة بالمخدرات الفعلية التي تتعاطاها فئات أغلبها من الشباب، وقليلا ما تنتشر بين كبار السن، فإن إدمان وسائل التواصل الرقمية، يدمنها الأطفال والشباب والكهول والشيوخ. والمخاطرة الكبرى في ذلك الإدمان هو أن رقابة الأهل والكبار صارت معدومة؛ لأن الكبار نفسهم يدمنون وسائل التواصل الرقمية، بل يباركون استخدامها. أضف إلى ذلك، أن زعم إدارة الفيسبوك بأنها تحاول الحفاظ على مجتمع نظيف خال من التجاوزات اللفظية والأخلاقية، مجرد وهم يتم تصديره للعالم، حتى يزيدوا من فترات إدمان الفيسبوك، التي هي فترات التصفح، والتي تساعدهم عليه وسائل التواصل بوجه عام، ليس من أجل التسرية عن العملاء أو تحقيق استفادة من المحتوى المقدم لهم؛ فالاستفادة الكبرى لا تجنيها إلا إدارة وسائل التواصل التي تبيع بيانات المشتركين للشركات المعلنة، وتتيح لهم مراقبة نشاط واهتمامات المستخدمين حتى تغريهم بالإعلانات التي تتوافق مع ميولهم.

من المحزن أن إدمان المخدرات الرقمية ليس لها ضوابط حتى الآن، كما هو الحال تقريبا بالنسبة لمنظومة القوانين التي تحكم العالم الافتراضي. العالم الرقمي الافتراضي صار واقعا ملموسا يجب السيطرة على مجرياته قبل أن يدمر الحياة الحقيقية على كوكب الأرض، بعد أن يلقي سكانه في براثن الإدمان.

ومن الجدير بالذكر أنه من الجائر إلقاء كل اللوم على الفيسبوك؛ فوسائل التواصل الأخرى أدمنها المستخدمون لدرجة تفوقت عليه، وجعلت منها أكثر أهمية بسبب استخدامها على الصُّعُد الاجتماعية والعملية، مثل: الواتساب وتويتر وإنستغرام واليوتيوب والتيك توك، وغيرها من وسائل التواصل الأخرى، إلا أن الخمسة المذكورة آنفًا تعد الأكثر انتشارا عالميا والأخطر، لأنه لا رقابة عليها تذكر، ووصلت شعبيتها للذروة خلال السنوات الثلاث السابقة، بعد أن ضربت العالم جائحة كورونا. والأدهى من كل هذا، أصبحت تلك التطبيقات مصدرا رئيسيا لكسب القوت، بعد أن احترف الكثير مهنة «صانعي المحتوى» Youtubers و»مؤثرين» Influencers وصار بث المحتوى ينتقل بسلاسة من تطبيق لآخر بغرض الترويج له بكل الوسائل؛ من أجل كسب المزيد من الأرباح. أضف إلى ذلك، ارتبطت العملية التعليمية مؤخرا ارتباطًا وثيقًا بوسائل التواصل الاجتماعي، التي صارت المنتدى، ووسيلة البث، وآلية الشرح والإجابة على التساؤلات في سرعة ويسر، لكن في خضم الأهداف النبيلة لتلك التطبيقات، يؤجل المستخدمون الاستفادة المشروعة من أجل اللعب واللهو الفارغ، دون هدف واضح إلا تصفح أكبر عدد من الأخبار، أو الاشتراك في تسلية لحظية أغلبها تهدف إلى نشر البذاءات والانحطاط بشكل مستتر، فعلى سبيل المثال، حتى لا يتعرض الفرد للعقاب أو الحظر على الفيسبوك، بسبب التلفظ بشيء خارج أو يحض على الكراهية، يتم تقطيع الكلمات بوضع فواصل أو نجوم، أو حرف أو رقم لاتيني أو غريب، وسط الكلمة سواء أكانت مكتوبة باللغة العربية أو أي لغة أخرى.
وقد قدر الخبراء أن الشخص العادي غير المرتبط بصناعة محتوى أو عملية تعليمية يبدد ما يقرب من الساعتين يوميا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وإجمالي هذا الوقت التقديري المهدر يصل إلى 5 سنوات و4 أشهر من عمر الشخص العادي، وهو الوقت نفسه الذي قد يقضيه الفرد في ركض 10 آلاف ماراثون، أو السفر للقمر والعودة منه 32 مرة، بالنسبة للشخص العادي، ناهيك من المراهقين الذين يهدرون ما يربو على 9 ساعات يوميا في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي.
وتبعا للإحصاءات الحديثة لعام 2021 التي توضح الإدمان العالمي لوسائل التواصل الرقمية، تبين أن إجمالي مدمني وسائل التواصل الاجتماعي في العالم، قفز إلى 333 مليون شخص عام 2021 بعد أن كان 280 عام 2020، أي أن قفزات الإدمان تسير بخطى متسارعة. علما بأن 7% من هؤلاء المدمنين صار لا أمل في شفائهم، خاصة بعد الاعتماد العالمي المتنامي على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أنها جزء أصيل من حياة 4.2 مليار شخص، أي نحو 55% من سكان العالم، أغلبهم من فئة المراهقين، الذين أدمنوها للحصول على أكبر قدر من التقدير الاجتماعي، بتحقيق الشهرة والحصول على أكبر عدد من اللايكات، وبذلك يشعرون بقيمتهم الاجتماعية، التي تخرجهم من الشعور بالدونية، على الرغم من أن ذاك السبب نفسه، هو الذي يقودهم للاكتئاب، سواء عند التجاهل أو بسبب طول فترات التصفح، ووصل عدد المصابين بالاكتئاب الرقمي 52% من المستخدمين. أما في حالة الأطفال، فإنه يحرمهم من النوم الجيد لفترات غير متقطعة بسبب ما يفرزه من أشعة. وبالنظر للكبار، فهناك من أدمن التصفح أثناء القيادة، وآخرون لا ينامون إلا وهواتفهم بالقرب منهم، وقد يستيقظون لعدة مرات تصل إلى العشر من أجل تصفح وسائل التواصل الاجتماعي. وغالبا، ما يكون تصفح تلك الوسائل أول مهمة ينجزها الفرد مباشرة بعد الاستيقاظ من النوم.
من المحزن أن إدمان المخدرات الرقمية ليس لها ضوابط حتى الآن، كما هو الحال تقريبا بالنسبة لمنظومة القوانين التي تحكم العالم الافتراضي. العالم الرقمي الافتراضي صار واقعا ملموسا يجب السيطرة على مجرياته قبل أن يدمر الحياة الحقيقية على كوكب الأرض، بعد أن يلقي سكانه في براثن الإدمان.