الخميس 28 آذار 2024

إلغاء الشعب الفلسطيني… فصل جديد من طروحات السلام


النهار الاخباريه  وكالات

هل بات الفلسطينيون شعباً مزعجاً يفتح شهية المنظرين للتعامل معه بوصفه كتلة سكانية؟ وهل يمكن التعامل معهم بطريقة تشبه التعامل مع سكان العشوائيات الذين تنقلهم الحكومات من أماكن سكنهم، إلى مناطق أخرى في بيوت متواضعة وقليلة التكلفة؟
يبدو أن اختزال الشعب الفلسطيني في مسألة سكانية أصبح اتجاهاً طاغياً في بعض الطروحات العربية، وآخرها طرح يقدمه رجل أعمال أردني من أصول فلسطينية كما يصف نفسه، والمشكلة ليست في طرحه نفسه، ولاسيما أن الرجل لا يمتلك لا الخبرة السياسية ولا العمق الأكاديمي ليقدم نفسه منظراً سياسياً، ولكن ما يستحق الالتفات هو تصديه لنشر رأيه في مجلة «فورين بوليسي» ذات التأثير الواسع في الأوساط السياسية الأمريكية، مع إعادة نشره وتمويله بصورة رعائية في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي الاستراتيجية التي أخذ يتبعها مؤخراً العديد من المنظرين الجدد، الذين يشتركون مع حسن اسميك في ضعف خبرتهم وتجربتهم وتأهيلهم.
ببساطة يرى الكاتب أن تقوم الأردن بإعادة ضم الضفة الغربية ومعها قطاع غزة، وحتى المستوطنات الإسرائيلية، وحصول سكانها على الجنسية الأردنية، لتتأسس مملكة جديدة فلسطينية ـ أردنية هاشمية، ومهما بدت الفكرة ذات جاذبية، فإن الأسباب التي يقدمها الكاتب تتمثل في تحقيق المصالح الإسرائيلية، فتتخلص إسرائيل من الأعباء القانونية الناجمة عن سيطرتها على الضفة الغربية، ومن كل ما يضر بسمعتها وعلاقاتها العامة، وكذلك تتمكن من نبذ العنف من خلال نزع سلاح الجماعات المسلحة مثل «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وبالطبع تحظى بالسلام الدافئ مع العرب، وتتمكن من جني ثمار العلاقات الطبيعية، مثل بيع التكنولوجيا للعالمين العربي والإسلامي، وتوظيف قوة عاملة إسرائيلية محترفة ومدربة تدريباً ممتازاً في الدول العربية. يتجاهل الطرح الذي يقدمه الكاتب جميع الوقائع على الأرض، ويبني على الافتراضات نفسها التي تأسست على أرضيتها صفقة القرن، أي وصول الفلسطينيين بشكل خاص، والعرب بشكل أكثر عمومية إلى الوضعية التي لا تمكنهم من رفض أي شيء مهما يكن، بعبارات أخرى، اليأس المطبق بوصفه محركاً أساسياً للفلسطينيين واللا مبالاة، وحتى البلادة سلوكاً عربياً سائداً تجاه القضية الفلسطينية، وتقوم هذه الافتراضات على حالة الاستغلاق السياسي التي تعيشها السلطة الفلسطينية، وواقع الانقسام العميق بين الفلسطينيين، كما تتواصل معه سذاجة الافتراضات إلى الجانب الإسرائيلي، الذي يمكنه أن يتخلى عن الأرض لنقل عبء إدارتها والتخلص من الصورة السلبية المرتبطة بالاحتلال إلى الجانب الأردني، ويتناسى الكاتب أن العقلية الإسرائيلية مصممة جوهرياً على عقيدة الأرض، فالصهيونية التي وعدتهم بالحليب والعسل، تحت أرض فلسطين المشمسة، جعلت الأرض تختلط بالمعنى الوجودي لهم.
للأردن محاذيره الخاصة في هذه المسألة، وعندما كان الحديث عن هوية وطنية جامعة خرجت التأويلات والتشكيكات من كل مكان، وقضية المواطنة في الأردن ليست ناجزة بالكامل، ويعمل الأردنيون على ورشة إصلاح سياسي تستوعب نقلة واسعة في المفاهيم، وفي المقابل، فإن الجانب الفلسطيني يعيش تفاعلاته الخاصة، ويمتلك خيارات أخرى منها، خيار الدولة الواحدة مقابل الدولتين، وهو الخيار الذي يعني انتحاراً وجودياً لإسرائيل، مع أن تجربة جنوب افريقيا ما زالت ماثلة في الأذهان، وبالتالي فالخيار الذي يقدمه اسميك في مقالته، ليس وحيداً ولا فريداً ولا جديداً، ومن يتحدث عنه أردنياً ينطلق من رؤيته لمصالح الأردن الوطنية، ولا يضع في اعتباره مصالح إسرائيل بوصفها جزءاً من صياغة أفكاره وتوجهاته، والنخبة الأردنية التي تتحدث في المسألة تستند إلى رؤى قانونية ووطنية مختلفة تماماً، فهي ترى التكامل مع الفلسطينيين، من خلال الوحدة، أو الفيدرالية، أو الكونفيدرالية، يجب أن يأتي لاحقاً لسيادة فلسطينية كاملة، واستجابة لقناعة أردنية في المقابل، وهو الأمر الذي يختلف جملةً وتفصيلاً عن عملية الهندسة السكانية التي يطرحها المقال. الأردن وفلسطين وطنان، وليسا عقارات، وأي طرح بخصوص المستقبل يجب أن يمتلك العمق الكافي في المخيلة والمشروعية السياسية، أما التعامل مع الفلسطينيين والأردنيين وكأنهم كتل بشرية صماء، تجري مناقلتها في الحافلات من مكان إلى آخر، فأمر لا يليق بالشعبين ولا تاريخهما ولا نضالاتهما، والتحجج بعدم جدوى وإنتاجية عشرات السنين من الصراع لا يعني القبول بحلول مبتسرة وناقصة ومجحفة. لا يختلف المقال حتى وإن كان يتحلى بمقولات فلسفية ونصوص قانونية عن منطق الرئيس أنور السادات وهو يخاطب الحلاق الخاص به ليشرح له وجهة نظره في السلام، فعلى الحلاق أن يقبل أولاً بالأمر الواقع، ويشرعن اغتصاب منزله، ثم يعود إلى واحدة من الغرف ويتعايش مع المغتصبين! هذه تدابير غير لائقة في صراع إنساني عميق لا يمكن تسويته إلا بطريقتين، القوة وحرب التحرير، وهي غير ممكنة في ظل الظروف الموضوعية القائمة، أو التعايش الكامل الذي لا يجعل العرب مجرد ملحق بوجود إسرائيل النموذجي، أي سلام قائم على أرض واحدة يسكن فيها مواطنون متساوون في الحقوق تحت سيادة القانون، والمتاح غير ذلك، هو حل الدولتين وتحقيق سيادة فلسطينية وتعزيز السيادة والمنعة الأردنية، لتكون رئة الدولة الفلسطينية وبوابتها إلى العالم، والخروج بها من علاقة الحبل السُري مع إسرائيل واقتصادها.