الجمعة 17 أيار 2024

أنماط العلاقات العربية- الإسرائيلية ومستقبل السلام في ظل اتفاقات أبراهام

اجتذبت اتفاقيات أبراهام التي وقعتها مؤخراً أربع دول عربية (الإمارات، والبحرين، والمغرب، وجمهورية السودان) التعليقات التي جادلت بأن المنطقة سوف تدخل حقبة جديدة. إلا أن الاتصالات بين بعض القادة العرب والصهاينة سبقت حتى استقلال الدول العربية وقيام دولة إسرائيل؛ حيث أشار الكثير من الباحثين والصحفيين إلى التعاون الخفي بين إسرائيل وبعض الدول والجماعات العربية.

وقد تناول جلين بيري؛ أستاذ العلوم السياسية، هذه المسألة بشكل مباشر في مقالةٍ ممتازة وموثقة جيداً بعنوان "المشاركة الإسرائيلية في السياسة العربية”، ونُشر قبل أكثر من ربع قرن. كما زعم بيري أن نظام الدولة العربية وضع ثلاثة حدود لسلوك أعضائه في السياسة الخارجية.

أولاً، خلقت الهوية العربية شعوراً بالتضامن بين أعضاء النظام. ثانياً، كانت الحركات العابرة للحدود الوطنية بين الدول قد انتشرت في الدول ذات السيادة، وقوضتها في بعض الأحيان. وثالثاً، "منع الجهات الفاعلة العربية من طلب دعم جهات خارجية في النزاعات الداخلية بين الدول العربية"؛ ناهيك بالتحالف مع ما سمَّاه العرب "الكيان الصهيوني”.

ومع ذلك، قال بيري إنه على الرغم من نظام الدولة العربية، الذي يحدد معايير سلوك الدولة؛ فإن إسرائيل تمكنت من شق طريقها إلى العالم العربي. وقد استخدمتِ الأنظمة العربية قوة إسرائيل لتحقيق التوازن ضد خصومها العرب. وربما كان اليمين المسيحي في لبنان أبرز مثال على هذا التعاون. وبالمثل، بدأ آخرون التعاون السري مع إسرائيل. وعلى الرغم من العداوة العلنية تجاه إسرائيل؛ فإن إسرائيل "لا تزال تلعب دوراً ضمنياً؛ لكنه مهم للغاية في نظام الضوابط والتوازنات الذي تطور في المنطقة”.
واليوم، تتجلى العلاقة بشكل كامل مع الكثير من الضجة، وربما كان ذلك علامة على ضعف نظام الدولة العربية؛ لكن العلاقة الجديدة نشأت من المنافسة الجيوسياسية المحتدمة بين ثلاثة اتجاهات، الأول هو التحالف الذي تقوده تركيا، والذي رأى في الربيع العربي عملاً لم ينتهِ بعد. والإسلاميون، الذين استفاد منهم هذا التحالف، والذي شهد صعودهم، وبدوا وكأنهم الحصان الرابح. غير أن الأحداث اللاحقة دحضت طموح الائتلاف الإسلامي، الذي ثبت أنه "هدف بعيد المنال”. 

والاتجاه الثاني هو الحركة الإسلامية الثورية بقيادة إيران مع مختلف الجهات الفاعلة من غير الدول، والتي تمتد من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين؛ حيث تسعى إيران وحلفاؤها، الذين نصّبوا أنفسهم بشكلٍ ما "لاهوت التحرير”، إلى إزاحة الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وتحرير الأراضي الفلسطينية المسلوبة؛ خصوصاً القدس، والإطاحة بالحلفاء العرب لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل.


أما الاتجاه الثالث فتقوده المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهو، لعدم وجود مصطلح أفضل، "تحالف الوضع الراهن”؛ أي تحالف يسعى للحفاظ على النظام السائد في مواجهة ما حدث في الربيع العربي. كما يسعى هذا التحالف جاهداً لدرء الاتجاهَين السابقَين، وبناء تحالف عربي كحصن ضد التدخل غير العربي في شؤونهم. وعلى النقيض من نظام الدولة العربية القديم، يرحب التحالف بدعم الحلفاء الدوليين في محاولته لكبح الخصوم الإقليميين؛ ولا سيما ضد ما يعتبره أنشطتهم الخبيثة.

ووصف وزير الخارجية البحريني عبداللطيف الزياني هذه الأنشطة بأنها "أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، من برنامجها العسكري إلى صواريخها الباليستية، ومن تدخلها في دولٍ أخرى إلى تورطها العلني المتزايد في الصراعات”. وعلاوة على ذلك، قال إن "إيران تشكل اليوم تحدياً للأمن الإقليمي أكثر من أي وقتٍ مضى في التاريخ الحديث”.
وإسرائيل، التي كان ينظر إليها العالم العربي بعين الشك والخوف والعداء الصريح، قد سَعَت تاريخياً إلى إقامة تحالفات من خارج النواة العربية في المنطقة. وقد تبنى ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، ما يُسمى بـ”عقيدة الأطراف”، أو تحالف الأطراف.

وقد اعتبرت هذه العقيدة العالم العربي عدواً لدوداً، وأتاحت لإسرائيل فرصة إقامة تحالفات مع الدول غير العربية؛ مثل تركيا، وإيران، وإثيوبيا، والأقلية غير العربية في جنوب السودان، والأكراد في العراق، والذين كانوا على أطراف الدول العربية؛ في محاولة لعصر رقبة العالم العربي. وإلى جانب كونها غير عربية، فقد كانت هذه الدول والجماعات منسجمة بشكل جيد في المعسكر الموالي للولايات المتحدة.
واليوم، أصبح الحلفاء السابقون يشكلون تهديداً لإسرائيل؛ فقد أعادت تركيا تصور إرثها العثماني، ورأت نفسها كزعيمة للعالم السُّني. بينما تنظر إيران، المنافس الأيديولوجي والجيوسياسي مع إسرائيل، إلى نفسها باعتبارها محور مقاومة هيمنة الولايات المتحدة وإسرائيل على المنطقة، والمروج لمساعدة المقهورين والمضطهدين في العالم.

وتنص المادة 154 من الدستور الإسلامي الإيراني صراحة على أن الجمهورية الثورية التي تأسست حديثاً "تدعم النضال الشرعي للمضطهدين ضد الطغاة في أي مكان في العالم”. وكان لزاماً على إسرائيل أن تعكس استراتيجيتها من تحالف الأطراف إلى تحالف النواة ضد الدول الطرفية القديمة.


والواقع أن قِلة من الدول العربية التي كانت تترنح من تجربتها مع إدارة أوباما، ونظراً لأن ظهورهم كانت إلى الحائط، رحبوا بالدعم الإسرائيلي، متغلبين بذلك على المحرمات التقليدية؛ وهي واقعية نشأت عن حتمية استراتيجية، فضلاً عن تحول النظام الإقليمي. وإذا تطلعنا إلى المستقبل عبر سؤال حول آفاق التحالف الحالي بين بعض الدول العربية وإسرائيل، سنجد أن التجربة علمتنا بعض الدروس التي يمكن أن تكون دليلاً لمستقبل هذه العلاقات؛ حيث كان هناك أربعة أنماط في العلاقات العربية- الإسرائيلية.
ويمكن وصف النمط الأول بأنه صدى أوليٌّ، انتهى بتذمر؛ حيث كان الرئيس الراحل أنور السادات قد قام في لحظة حماسية برحلة إلى القدس لإلقاء كلمة أمام الكنيست الإسرائيلي من أجل سلامٍ منفصل. وكانت مصر تعاني العزلة في العالم العربي، والمفاوضات الشاقة مع عدوها السابق. وفي النهاية، استعادت مصر أراضيها المسلوبة في سيناء. وعلى الرغم من التطبيع؛ فإن العلاقة تدهورت إلى ما أصبح، بلغةٍ إقليمية، سلاماً بارداً.

وعلى نحوٍ مماثل، أبدى الأردن بعد خسارة رهانه على غزو صدام حسين للكويت، استعداده لتسوية خلافاته مع إسرائيل. والواقع أن الولايات المتحدة، التي كانت دوماً على استعداد لدعم وتعزيز شرعية إسرائيل في المنطقة، قد رَعَت محادثات السلام، وساعدت الأردن في مشكلاته الاقتصادية. وقد أدى الافتقار إلى الدعم الشعبي لمعاهدة السلام الإسرائيلية- الأردنية، وتوقف أي تقدم بشأن القضية الفلسطينية في نهاية المطاف إلى سلامٍ بارد آخر.
أما النمط الثاني فهو المواجهة؛ فالعلاقات الإسرائيلية- الفلسطينية كانت دائمًا محفوفة بالمخاطر. وكانت إسرائيل تنظر إلى الفلسطينيين باعتبارهم حقيقة مزعجة، حتى قبل قيام دولة إسرائيل. وقد أنكر الصهاينة الأوائل وجود شعب في أرض فلسطين المرغوبة. ففلسطين في مخيلة الصهاينة "أرض بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض”. غير أن الصراع على أرض الواقع كان حقيقياً بالنسبة إلى المطالبات المتنازع عليها على الأرض نفسها.

وسوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يعترف كل من طرفي الصراع بالآخر. وقد قرأت إسرائيل الوضع الدولي بعناية مع انهيار الاتحاد السوفييتي، ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، واختارت الدخول في مفاوضاتٍ سرية أدت إلى اتفاقات أوسلو. وفتحت الثورة الصناعية الرابعة للتكنولوجيا والإنترنت آفاقاً جديدة لإسرائيل كمركز للتكنولوجيا.
ولتعزيز العلاقات مع مراكز التكنولوجيا الناشئة الأخرى في مختلف أنحاء العالم، كان عليها أن تتخلى عن صورتها كقوة احتلال عنيدة، وأن تتوصل إلى تفاهم مع الفلسطينيين، وأن تتخذ موقفاً سلمياً. وقد وصف تريتا بارسي رؤية حزب العمل الإسرائيلي في التسعينيات للمنطقة على النحو التالي:

يعتقد شيمون بيريز أنه بمجرد حل النزاعات السياسية بين العرب وإسرائيل، فإن العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والعرب سوف تبرز باعتبارها المحرك الاقتصادي للمنطقة، والذي ينتج السلع للسوق العربية القوية التي يبلغ قوامها 240 مليون نسمة. وإسرائيل، بوصفها هونغ كونغ الشرق الأوسط، فإنها ستحقق نصيب الفرد نفسه من الناتج المحلي الإجمالي الذي تحققه الولايات المتحدة.
ومن خلال تحريك المركز الاقتصادي للشرق الأوسط باتجاه منطقة البحر الأحمر وإسرائيل، فإن منطقة الخليج الفارسي (وإيران) سوف تفقد أهميتها الاستراتيجية. وبمجرد البدء في تنفيذ الفكرة، انهارت العلاقة إلى مواجهة. وعاد الفلسطينيون الذين يئسوا من عدم إحراز تقدم في عملية السلام، والتي أصبحت غاية في حد ذاتها، إلى المقاومة العنيفة وبدأوا الانتفاضة الثانية. وقد وضع تصاعد العنف بين الجانبين في ما بعد حداً للأمل في التوصل إلى حل بينهما. ويمكن أن يطلق على النمط الثالث في العلاقة "الانهيار”. وهناك نوعان من حالات الانهيار هذه. وربما كان السبب وراء هذا الاختتام هو الطبيعة الوظيفية للعلاقات في البداية.

فعندما تجاوزت الوظيفة فائدتها، انقطعت الروابط. وكانت الحالة الأولى من الانهيار مع الكتائب اللبنانية في السبعينيات؛ حيث يشير بيري إلى العلاقات السابقة بين المسيحيين الموارنة والصهاينة، قائلاً: "تعود الاتصالات الودية بين الصهيونية والمارونية إلى فترة ما قبل عام 1914”. وقد شهدت السبعينيات عنصراً جديداً في العلاقة، ألا وهو الوجود المسلح لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، والتي استخدمت لبنان كمنصة لمهاجمة إسرائيل؛ أملاً في انتزاع الإرث الفلسطيني من أيدي الإسرائيليين.

وقد رأى الموارنة أن منظمة التحرير الفلسطينية تشكل تهديداً لهيمنتهم ونفوذهم ومصدراً لعدم الاستقرار، نظراً للانتقام الإسرائيلي القاسي ضد لبنان. وقامت إسرائيل والمارونية اللبنانية بالانخراط في قضية مشتركة ضد الوجود الفلسطيني. ورد الفلسطينيون بالمثل من خلال التحالف مع الحركة الوطنية اللبنانية التي عارضت اليمينيين اللبنانيين.
وكان التحالف بينهما نتيجة الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وبمجرد أن غادرت منظمة التحرير الفلسطينية لبنان عام 1982 كنتيجةٍ للغزو الإسرائيلي، تبدد سبب التحالف. وظل الجنوب المحتل يشكل مشكلة مع إعلان دولة لبنان الحر في الجنوب عام 1978 من قِبل الضابط المنشق، سعد حداد. وكان المفترض أن تكون الدولة التي تتحكم بها إسرائيل بمثابة حزام حاجز. ومع ذلك، ومع تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، تم حل آخر نقطة ارتكاز للتحالف. وليس من قبيل المبالغة القول إن المسيحيين اللبنانيين ينتقدون إسرائيل بقدر انتقاد مواطنيهم المسلمين، وكثير منهم يشعرون بالخيانة من جانب إسرائيل.
أما الحالة الثانية من الانهيار فهي العلاقات غير المتطرق إليها بين موريتانيا وإسرائيل. ففي التسعينيات، شعرت موريتانيا بالعزلة في أعقاب حرب الكويت. وكانت الولايات المتحدة ودول الخليج قد توترت علاقاتها مع نواكشوط؛ لأنها انحازت إلى صدام حسين. وعلاوة على ذلك، كانت واشنطن تنتقد موريتانيا؛ بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وممارسات الاتهام بالرق، وسوء معاملة اللاجئين. وبسبب نقص السيولة النقدية والعزلة الدبلوماسية، اقتربت نواكشوط من إسرائيل للحصول على اعتراف دبلوماسي كامل وتبادل للسفراء.

وقد أشرفت الولايات المتحدة على مراسم التوقيع بين الطرفَين في واشنطن عام 1999. ومع ذلك، تزايدت الضغوط الشعبية ضد التطبيع مع إسرائيل. ومع انتخاب موريتانيا حكومة ديمقراطية حقيقية بين عامَي 2006 و2007، فقد سُمعت أصوات المعارضة بصوت عالٍ وواضح. وقدمت حرب غزة 2008- 2009 الدافع لإنهاء العلاقة. وبعد عقد من العلاقات الدبلوماسية الكاملة، أمرت نواكشوط البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية بحزم أمتعتها في عام 2009.

والواقع أن موجة التطبيع هذه قد بدأت النمط الرابع للتو، ومن المبكر للغاية أن نقيم مدى متانته. وحتى الآن، وقعت أربع دول على اتفاقات أبراهام في غضون أشهر، وتتقدم عملية التطبيع، مع البعض منها، بسرعة فائقة؛ ولكن هل سيستمر هذا الاتجاه، أم أن صراعاً آخر سيوقفه عن مساره، بل وربما حتى يعكسه؟ فقد شهد الاتفاق الأكثر أهمية في الأربعة، مع الإمارات العربية المتحدة، عدداً من العثرات.

حيث اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب من المعرض العسكري السنوي الذي يُقام في الإمارات في فبراير الماضي؛ بسبب "التوترات التجارية بين البلدَين”. ونتج خلاف آخر عما اعتبر محاولة بنيامين نتنياهو للتلاعب السياسي؛ مما أدى إلى إلغاء الإمارات رحلة رئيس الوزراء إلى أبوظبي، على الرغم من احتجاج نتنياهو على عكس ذلك.
وقد عبرت الإمارات عن استيائها من إسرائيل من خلال تصريحاتٍ علنية مبطنة؛ فقد قال أنور قرقاش، مستشار رئيس الإمارات العربية المتحدة، إن اتفاقات إبراهام وفرت أساساً للسلام مع إسرائيل والمنطقة ككل، مضيفاً في تغريدة: "إن الإمارات لن تكون جزءاً من أية حملة انتخابية داخلية في إسرائيل، الآن أو أبداً”. ويبقى أن نرى إلى أي مدى ستصل، وما إذا كانت الموجة الأخيرة من التطبيع سوف تؤسس نمطاً جديداً للعلاقة بين الدول العربية وإسرائيل.

♦️كاتب إماراتي، كان أستاذاً في كلية الدفاع الوطني الإماراتية في أبوظبي. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة ميشيغان في السياسة المقارنة، والعلاقات الدولية، والاقتصاد السياسي، بالإضافة إلى درجتَي ماجستير في العلوم السياسية، ودراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
-مجلة منارة