الجمعة 26 نيسان 2024

الولايات المتحدة ما زالت في حاجة الاستراتيجية مكافحة التمرد


النهار الاخباريه-  وكالات 
عاد الجيش الأميركي في عام 2006، عندما كانت الحرب التي تخوضها عناصره في العراق قد بلغت أدنى مستوياتها، إحياء "عقيدة مكافحة التمرد" (COIN) Counterinsurgency (مجموعة إجراءاتٍ عسكرية ومدنية تستهدف هزم القوى غير النظامية). ووفق هذه العقيدة، التي كان قد عمل على تطويرها مبتكرون عسكريون في خمسينيات القرن الماضي، كالماريشال البريطاني السير جيرالد تمبلر في مالايا، والعميل السري الأميركي إدوارد لانسديل في الفيليبين، فإن القوى العسكرية لا يمكنها إلحاق الهزيمة بحالات التمرد، بمجرد القضاء على المتمردين. وقد يفضي القتل العشوائي في واقع الأمر إلى زيادة الأعداء بدلاً من تقليص عددهم. أما الطريق إلى تحقيق الهدف، بحسب "عقيدة مكافحة التمرد" COIN، فيتمثل في إرساء الأمن وتقديم الخدمات الأساسية للناس العاديين. ومن شأن هذا النهج أن يساعد عمليات مكافحة التمرد على كسب ثقة الناس، وأن يضاعف احتمالات جمع معلوماتٍ استخبارية حيوية ضرورية للقضاء على المتمردين المتشددين أو اعتقالهم من دون إلحاق ضررٍ بمدنيين أبرياء.
وفي هذا المجال، تعاون جنرالان - هما ديفيد بترايوس من "القوى البرية في الجيش الأميركي" U.S. Army ، وجيمس ماتيس من "سلاح مشاة البحرية الأميركية" U.S. Marine Corps - على إعداد دليل ميداني مبتكر، صدر في ديسمبر (كانون الأول) عام 2006، وأسهم في نشر "عقيدة مكافحة التمرد". وقد طبق بترايوس في الأعوام التي تلت، هذه الاستراتيجية، خلال توليه قيادة القوات الأميركية في العراق. وأسهمت عملياته العسكرية المكثفة في هذا المجال، في تخفيض العنف هناك بأكثر من 90 في المئة. وعلى الرغم من أن القوات الأميركية لم تفلح في فض النزاعات العرقية الكامنة والاضطرابات الطائفية المتجذرة، أو تحويل العراق إلى دولةٍ ديموقراطية نموذجية يُحتذى بها، إلا أن النجاح الذي حققته في مكافحة التمرد (عبر تعزيز خطة الزيادة العسكرية [رفع أعداد القوات الأميركية]) في مدة قصيرة، أسهم في زيادة شعبيتها في مختلف أوساط الأمن القومي الأميركي. وفي المرحلة التي تلت، واصل كل من بترايوس وماتيس ترؤس "القيادة المركزية الأميركية" U.S. Central Command (المسؤولة عن الشرق الأوسط)، وتسلما مناصب على أعلى المستويات الحكومية: بترايوس عُين مديراً لـ "وكالة الاستخبارات المركزية" CIA، فيما تولى ماتيس وزارة الدفاع.
وفي المقابل، قاد بترايوس القوات الأميركية والدولية في أفغانستان في الفترة الممتدة ما بين عامي 2010 و2011، أشرف خلالها على تحقيق خطةٍ أخرى لزيادة القوات العسكرية هناك. إلا أن هذا الإجراء، لم يتمخض عن نتائج جذرية كتلك التي شهدها العراق. فالتحذيرات التي أطلقها بترايوس قبل توليه المنصب - من أن أفغانستان "تمثل مشكلةً أكثر تعقيداً" - سرعان ما اتضحت مؤشراتها وتحولت إلى حقائق على الأرض [ميدانية]. أما الآن، وبعد نحو عقدين من الزمن من التدخل العسكري الأميركي، قرر الرئيس الأميركي جو بايدن سحب قوات بلاده المتبقية في أفغانستان والبالغ عددها 3500 جندي، على الرغم من عدم إحراز تقدم في محادثات السلام بين الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان". فالحركة تبدو أقوى من أي وقتٍ مضى، وهي تتهيأ لتحقيق مكاسب ميدانية واسعة. وفي هذا الإطار، حذرت أوساط استخباراتية أميركية من وقوع أفغانستان بكاملها تحت سيطرة الجماعة، بعد سنتين أو ثلاث سنوات من رحيل القوات الدولية. وفي حال حدوث ذلك، فإن النتائج ستمثل أكبر هزيمةٍ عسكرية مذلة للولايات المتحدة منذ حرب فيتنام - حيث انتصر العدو أيضاً بعد انسحاب القوات الأميركية.
قوم استراتيجية بايدن بشأن الانسحاب الأميركي من أفغانستان على الحاجة إلى التركيز على أولوياتٍ أخرى، لا سيما منها طريقة إدارة واشنطن للمنافسة بين القوى العظمى التي تخوضها مع كل من الصين وروسيا. فقد بدأ تحويل وجهة سلاح مشاة البحرية الأميركية، التي تعتبر نفسها منذ عشرينيات القرن الماضي القوة "الحربية الصغيرة" الأولى للولايات المتحدة، نحو تنفيذ حملات تنقل سريع بين الجزر في المحيط الهادئ (استراتيجية عسكرية استخدمها الحلفاء في حرب المحيط الهادئ ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية)، التي تختلف كثيراً عن نطاق عمليات "عقيدة مكافحة التمرد" COIN التي نفذتها وحدات المارينز منذ وقتٍ ليس ببعيد، في محافظة الأنبار في العراق ومحافظة هلمند في أفغانستان.
وبعد مرور نحو عشرين عاماً على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بدأ عصر مكافحة التمرد يقترب من نهايته، وأخذت "عقيدة مكافحة التمرد" تفقد تأثيرها سريعاً في دوائر الأمن القومي الأميركية. لكن في موازاة ذلك، سيشكل أي استخفافٍ بهذه العقيدة خطأ فادحاً اليوم، إذ لا توجد في الواقع استراتيجية أفضل لمواجهة الإرهابيين والعصابات. وإذا تناست الولايات المتحدة مبادئ "مكافحة التمرد"، كما فعلت بعد حرب فيتنام، فستدفع ثمناً باهظاً في ساحات المعارك في المستقبل 

كر وفر
لا بد من الإشارة، قبل إطاحة "عقيدة مكافحة التمرد"، إلى أنها حققت نجاحاً بالفعل في أفغانستان عندما وحيثما التزمت الولايات المتحدة تخصيص قواتٍ كافية لتنفيذها. وقد أمكن لأي شخص زار هلمند وقندهار في الفترة الممتدة ما بين عامي 2011 و2012 - عندما كانت الجهود الأميركية لمكافحة التمرد في أفغانستان في ذروتها - أن يشهد تقدماً واضحاً في هذا المجال هناك. فقد عمل الجنود ومشاة البحرية على تطهير حركة "طالبان" من معاقل لطالما كانت تحكم السيطرة عليها، وأسهموا في تحسين الظروف الأمنية، وإن كان ذلك قد كلفهم خسائر كبيرة. وقد حذر الجنرال ستانلي ماكريستال عندما كان قائداً للقوات الأميركية في أفغانستان ما بين عامي 2009 و2010 في أحد تقاريره، من أن حركة "طالبان" كانت تحقق مكاسب سريعة إلى درجة أن العملية الأميركية في أفغانستان كانت تواجه خطر "الفشل في مهمتها". وأدت زيادة عدد القوات التي أمر بها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، من خلال رفع عديد القوات الأميركية إلى 100 ألف عنصر، إلى تفادي هذا الخطر وتقويض تقدم "طالبان".
لكن المشكلة كانت في أن التحسينات الأمنية كانت محصورةً في مناطق محددة ولم تدم طويلاً. ولم تلتزم الولايات المتحدة كما يجب تأمين قواتٍ كافية لتنفيذ عملياتٍ في إطار "عقيدة مكافحة التمرد" على مستوى البلاد برمتها، وعلى الرغم من انتقاد أوباما لطريقة بناء الدولة هناك، أصر على إرسال قواتٍ إضافية إلى أفغانستان لكنه أرفق أمر العمليات بجدول زمني مدته 18 شهراً. وهذا ما شجع كما كان متوقعاً حركة "طالبان" على التريث والانتظار بكل ببساطة حتى انتهاء الهجوم الأميركي، كي يعود مقاتلوها إلى المناطق التي أُخرجوا منها، وذلك بمجرد انسحاب الولايات المتحدة منها. وفي المقابل، أدى الموعد النهائي للانسحاب الأميركي إلى تعطيل آفاق إجراء مفاوضات سلامٍ ناجحة. ونُقل عن أحد قادة "طالبان" قوله في هذا الإطار: "تمتلكون ما شئتم من الساعات، لكننا نملك ما شئنا من الوقت".