الخميس 28 آذار 2024

اليونان و”سفن الظل” وإغراءات لا تقاوم.. كيف تنجح روسيا في تصدير النفط رغم العقوبات؟

النهار الاخبارية - وكالات 

تعرضت روسيا لأكبر حملة عقوبات فرضها الغرب على موسكو منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، لكن موسكو لا تزال قادرة على تصدير النفط، فما الدور الذي تلعبه اليونان و"سفن الظل"؟

بدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا منذ أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحِدتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط.

ومع تواصُل الهجوم الروسي على أوكرانيا، تزايدت بشكل متسارع عزلة روسيا على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية، وحتى الثقافية والسينمائية، ولا تزال الحرب مستعِرة، ولم تحقق انتصاراً حاسماً وسريعاً كما كان يأمل بوتين.

لكن رغم مرور أكثر من 9 أشهر على اندلاع الحرب وفرض العقوبات، لا تزال الخزانة الروسية تستقبل المليارات من عائدات تصدير الطاقة، من نفط وغاز وغيرهما، فكيف تتمكن موسكو من إيصال نفطها للمشترين، وبخاصة في آسيا؟

الشركات والسفن اليونانية
تناولت مجلة Foreign Policy الأمريكية إجابة هذا السؤال من خلال تقرير لها بعنوان: "كيف تساعد الشركات اليونانية و"سفن الظل" روسيا في تصدير نفطها؟"، رصد الثغرات التي تستغلها الشركات الغربية، وبخاصة اليونانية، في قرارات العقوبات الغربية، لمواصلة العمل مع الشركات الروسية في مجال الطاقة.

ففي مايو/أيار الماضي، بدأت شركة Lloyd'List Intelligence التي تراقب حركة الشحن العالمية في رصد نمطٍ غريب داخل موانئ أوست-لوجا، وبريمورسك، ونوفوروسيسك، وسانت بطرسبرغ. إذ غادرت تلك الموانئ 204 ناقلات ضخمة خلال الفترة من الأول وحتى الـ26 من ذلك الشهر، وبينها 58 ناقلة مملوكة لعملاقة النفط الروسية Sovcomflot. لكن عدد ناقلات النفط المملوكة لشركات يونانية كان أكبر، حيث بلغ 79 ناقلة. وذكرت شركة الأبحاث في تقريرٍ لاحق أن "الزيادة المهولة في الرحلات المتجهة إلى الهند وتركيا والصين تدل على الاتجاه الحالي لتلك الشحنات، بعد أن كانت مخصصةً لأمريكا الشمالية وغرب أوروبا في المعتاد".

وخلال الشهر نفسه، لاحظت الشركة نفسها سبع ناقلات نفط ضخمة تغادر سواحل مدينة كالاماتا اليونانية ومدينتي مرسى شلوق ومارساسكالا المالطيتين، متجهةً إلى الهند والصين والإمارات. وكانت تلك الناقلات محملةً بالنفط الروسي الذي جاء على متن ناقلات أصغر عبر موانئ البحر الميت في نوفوروسيسك، وتوابسي، وتامان. وهو ما يعني أن السفن والموانئ اليونانية تساعد روسيا في تصدير نفطها.

ومع ذلك، قال ريتشارد ميدي من شركة Lloyd'List Intelligence: "ليس هناك شيءٌ غير قانوني فيما تفعله الموانئ وشركات الشحن اليونانية اليوم. كل ما تفعله هو تحويلٌ لطريق التجارة بسبب القيود، ولا تفعل الشركات اليونانية ذلك بطريقةٍ مستترة، لكنهم لن يتمكنوا من فعل ما يفعلونه اليوم عندما تتغير القواعد". وسيأتي ذلك التغيير في الخامس من ديسمبر/كانون الأول، عندما يدخل حظر الاتحاد الأوروبي للخام الروسي حيز التنفيذ، وفي الخامس من فبراير/شباط مع بدء حظر المنتجات البترولية الروسية المكررة أيضاً.

وحظر الاتحاد الأوروبي السفن الروسية، في أواخر مايو/أيار، لكن النفط الروسي لا يزال يصل إلى موانئ الاتحاد الأوروبي عبر ناقلات مملوكة لدول أخرى أو تحمل أعلامها. ويبدو أن صناعة الشحن اليونانية الضخمة وجدت فرصتها هنا. ويتسابق التجار اليوم على ملء خزاناتهم بالنفط الروسي. ما يُشير إلى أن الفاصل الزمني بين إعلان العقوبات، في أكتوبر/تشرين الأول، وبين دخولها حيز التنفيذ قد تحول إلى فترة سماح للشركات والدول الراغبة في الحصول على المزيد من الذهب الأسود.

إذ قال مالك السفن اليوناني إيفانجيلوس ماريناكيس لصحيفة TradeWinds النرويجية، في يوليو/تموز: "ما تنقله حمولة السفن اليونانية هو نفطٌ تم التعاقد عليه بالفعل، ومعتمدٌ بالكامل من الاتحاد الأوروبي… وهو نفطٌ تحتاجه بلادنا بشدة".

وجاء تصريح ماريناكيس بعد أن قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لمؤتمرٍ اقتصادي يوناني إن شركات الشحن اليونانية "تقدم أكبر أسطول ناقلات نفطية لنقل النفط الروسي تقريباً". لكن فترة السماح شارفت على الانتهاء الآن، حيث أعلنت الحكومة الأمريكية، في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، أنها ستحظر النقل البحري للخام الروسي أيضاً، اعتباراً من الخامس من ديسمبر/كانون الأول. كما ستدخل عقوبات المملكة المتحدة على النفط والمنتجات النفطية حيز التنفيذ في التاريخ نفسه أيضاً.

ما هي "سفن الظل"؟
من المرجح أن تؤدي عمليات الحظر تلك إلى تسريع وتيرة صعود اتجاهٍ بحريٍّ آخر، وهو الشحن غير القانوني بواسطة سفنٍ لا وجود لها رسمياً، إذ شهدت السنوات الأخيرة انضمام أسطولٍ جديدٍ كامل من "سفن الظل" المذكورة إلى أسطول السفن العالمي.

وعادةً ما تكون السفن الرسمية مسجلةً في إحدى دول العلم (وغالباً ما تكون بنما أو ليبيريا أو جزر مارشال)، ولديها رقم تسجيل لدى المنظمة البحرية الدولية، ومغطاة من قِبل شركات التأمين التجاري. أما سفن الظل على الناحية الأخرى فليست مسجلةً لدى دولة علم، وليس لديها رقم تسجيل أو تأمين تجاري.

اعتادت سفن الظل زيادة اختفائها من الوجود عن طريق إغلاق أنظمة تحديد الهوية الآلية AIS على متنها، حتى تعجز السلطات التي تحاول مراقبتها عن رؤيتها. وقال ميدي: "لدينا اليوم أسطول احتيالي من نحو 200 سفينة تعمل على مستوى العالم، دون إشراف من الكيانات الدولية تقريباً، ومع بنيةٍ تحتية تدعم العملية. ونشهد اليوم إنشاء شركات شحن جديدة بالطريقة نفسها التي شهدناها بعد فرض العقوبات الإيرانية، والفنزويلية، والكورية الشمالية". ومن المنطقي مع فرض كل عقوبات جديدة أن تحاول الأطراف المتمرسة في صناعة الشحن التحايل عليها.

وأصبح حجم أسطول الظل اليوم أكبر بثلاثة أضعاف مما كان عليه قبل تسعة أشهرٍ فقط حسب التقديرات. كما اكتشفت المنظمة البحرية الدولية بعض حالات استخدام رايات (أعلام) مزيفة من قبل. ففي عام 2019، سجّلت المنظمة رصد 73 سفينة تُبحر بأوراق تسجيل احتيالية، تزعم أنها تمثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، و91 سفينة بأوراق تزعم أنها مسجلة في فيجي، و150 أخرى تحمل راية ميكرونيسيا.

ولا شك أن وجود أسطول ظلٍّ يجوب محيطات العالم هو أمرٌ يمثل خطر سلامةٍ واضح على صناعة الشحن العالمية، وصداعاً في رأس الحكومات الغربية أيضاً. إذ قال كورماك ماك غاري، المحلل البحري في شركة Control Risks لاستشارات المخاطر: "إذا نظرت إلى إيران، فستجد أن البضائع تدخل وتخرج من البلاد رغم العقوبات الدولية الهائلة، ولا عجب أن الكثير من الدول لا تهتم بالتحقيق في أمر السفن التي تدخل موانئها". وربما يكون من مصلحة تلك الدول في الواقع أن تغض الطرف عن سفن أسطول الظل، وعن شركات الشحن القانونية التي ربما تحمل على متنها بعض البضائع الخاضعة للعقوبات.

وأوضح ماك غاري: "تُجدي العقوبات نفعاً بقدر استعداد الدول للالتزام بها، ولا يكترث نصف العالم بالعقوبات الغربية المفروضة على روسيا فعلياً، ولهذا يُعتبر فرض العقوبات أمراً بالغ الصعوبة".

وتتعامل شركات التأمين بحساسية شديدة مع انتهاك العقوبات بين عملائها، لكنهم لا يستطيعون التحقيق في أمر كل سفينة تغطيها بوالص التأمين، علاوةً على أن العديد من الدول تعتمد على تجارتها مع الدول الخاضعة للعقوبات، لأن حمولة سفن الظل تعتبر أرخص من حمولة السفن القانونية، ولهذا تُباع بسعرٍ أقل. وقد برهنت إيران، وكوريا الشمالية، وفنزويلا، وروسيا على وجود دول مستعدة لشراء السلع الخاضعة للعقوبات بأسعار مخفضة دائماً.

لماذا المخاطرة بخرق العقوبات على روسيا وغيرها؟
بينما لا يستطيع أسطول الظل الحصول على تأمين تجاري، ولن يخاطر أي كيانٍ بحري بالتورط فردياً في تشغيل سفينة ظل تحمل شحنات خطرة مثل النفط، لكن الحكومات الخاضعة للعقوبات فكّرت في حلٍّ لذلك؛ إذ تمنح تلك الحكومات اليوم تأميناً للسفن الرسمية المستعدة لنقل بضائعها في الكثير من الحالات، وربما تفعل ذلك مع سفن الظل أيضاً، رغم أنه من الصعب معرفة حالة تأمين سفن الظل نظراً لعدم وجودها "رسمياً".

وأوضح ميدي: "طوّرت إيران منظومة تأمين فعالة للحماية والتعويضات، وتفعل روسيا الشيء نفسه اليوم". حيث كشفت التقارير في يونيو/حزيران أن شركة إعادة التأمين الوطنية الروسية بدأت في التأمين على السفن الروسية الرسمية، وذلك بعد أن ألغت شركات التأمين الأوروبية تغطيتها لها، استجابةً للعقوبات الأمريكية والأوروبية.

لكن شركات الشحن لا يمكنها العمل في الظل لصالح الروس، أو الإيرانيين، أو الفنزويليين ببساطة، إذ تمتد صلاحية بوالص "تأمين الحماية والتعويضات" لمدة عامٍ واحد. لهذا يتعين على شركات الشحن أن تقرر ما إذا كانت تريد أن تصبح جزءاً من الأسطول المؤمن تجارياً والممتثل للعقوبات الغربية، أم تريد شحن البضائع الخاضعة للعقوبات الغربية إلى دولٍ لم تفرض العقوبات بتأمينٍ من الحكومة الروسية أو الإيرانية. بينما ليس أسطول الظل مضطراً للانشغال بتلك القواعد، لكنه لا يحظى بحمايةٍ قانونية في الوقت ذاته.

وبالنسبة لشركات الشحن اليونانية التي تتربح اليوم سريعاً من الخام الروسي، فلم يتبق أمامها سوى نحو أسبوعين قبل أن تدخل العقوبات الأوروبية والأمريكية حيز التنفيذ. وبشكل عام هناك من يرى أنه لم يكن يتعين على صناعة الشحن اليونانية الضخمة أن تدخل في مثل هذا التعاون غير التقليدي من الأساس.

لكننا نعلم بالطبع أن السفن اليونانية شاركت في انتهاك العقوبات من قبل، إذ سبق رصد السفينة ستافروس Stavros الخاضعة لإدارةٍ يونانية، وهي تُحمِّل 53 ألف طن من الفحم في ميناء روسي يوم الـ29 من أغسطس/آب، بعد دخول عقوبات الاتحاد الأوروبي على الفحم الروسي حيز التنفيذ.

وقبلها ببضعة أشهر، انتقد اثنان من كبار ملاك السفن اليونانيين العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، ووصفوها بغير الفعالة، وجادلوا بأنها تضر بالاتحاد الأوروبي أكثر من روسيا.

ومن المؤكد أن الحكومة اليونانية كانت ستطالب شركاتها بعدم تمكين روسيا، لو كانت تلك الحكومة أكثر التزاماً بالعقوبات، لكن مساعدة روسيا على تصدير نفطها ستكون تصرفاً غير قانوني بعد الخامس من ديسمبر/كانون الأول، فهل ستواصل بعض الشركات اليونانية أعمالها كالمعتاد؟ وكم عدد السفن العالمية التي ستختفي داخل أسطول الظل؟ ومن الجيد أن الصحفيين والمنظمات الأهلية يواصلون مراقبة الوضع، في ظل عزوف الحكومات عن الإمساك بالمخالفين.